مهنة النشر.. والواقع الخطير
لم يدرك الإنسان القديم أهمية القراءة في الكتب.. فقد كانت أمامه صفحة الكون العظيم التي ألهمته التأمل والوصول إلي حقيقة الوجود.. والتي جعلته ينظر إلي أهمية وجوده فوق الأرض.. وضرورة توارث الأجيال.. ومن ثم اخترع كل ما يمكن أن يحقق له وللأجيال القادمة وسائل العيش الهائنة.وحين اشتدت الحاجة لديه إلي التفاهم مع الآخرين.. اخترع اللغة التي بدأت بالإشارة.. وانتهت إلي لغة لها مقوماتها الخاصة المرتبطة بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان في تسجيل أحداث حياته لعلها تنفع من يأتي بعده من سلالات البشر فاخترع الكتابة.. وكانت الصور أسبق من الحروف للتعبير عن تلك المجتمعات القديمة.. فقد وجدت خطوط ملتوية حول أواني الفخار.. وبصمات للأيدي علي جدران الكهوف وصور الطير والحيوان علي الأحجار.. وصور للأسلحة اليدوية في كل مكان.. وكان ذلك كله يعبر عن حاجات الإنسان الأول.. ومع ذلك لم يوفق العلماء في العثور علي أي وثائق مدونة ترجع إلي أبعد من(4000 ق.م) تقريبا وكانت في شكل إشارات لفظية برموز تصويرية في الكتابات المصرية والصينية والسومرية القديمة وغيرها..كما وجدت نقوش كثيرة بلهجات مختلفة فوق الجدران القديمة في العصر الجاهلي العربي.. لكن الصورة الحقيقية للكلمة المطبوعة كانت فيما يبدو في صورة شعر المعلقات التي قيل إنها كانت تعلق فوق الكعبة تعظيما وتشريفا. وسواء صح هذا الخبر أم لا.. فقد كان معروفا أن ملوك الغساسنة كانوا يحتفظون في خزائنهم بديوان يضم مدائح الشعراء.. كما أن صلح الحديبية كان مكتوبا.. وأن المسلمين جمعوا القرآن من فوق الجلود والأحجار والقحوف والورق إلي جانب الحفظة الموثقين.. ولقد تعلم العرب صناعة الورق من الصينيين الذين وقعوا في الأسر عند سقوط سمرقند(1751 م) وفي نهاية القرن الثامن كانت هناك صناعة للورق في بغداد وسوريا في عصر هارون الرشد.. ثم صدر العرب هذه الصناعة إلي صقلية والأندلس لتصل إلي أوروبا.تلك إذن بواكير الكلمة المطبوعة لدي الشعوب القديمة وأكثرها حضارة وفكرا..أما في العصور الحديثة.. فقد دخلت المطبعة مع الحملة الفرنسية علي مصر(1798) لكن النشر لم يقم كمهنة ذات هدف مشترك أو صناعة ذات مقومات وخطة يجتمع حولها القائمون علي أمرها.. وإنما نشأت كأية حرفة بدائية يتكسب صاحبها منها لقمة عيشه.. ولم يكن العاملون فيها من أبناء مدرسة مهنية تتيح لهم تطوير هذه المهنة.. ولم تكن خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر مطابع أهلية وإنما كان نشر الكتاب تقوم به مطبعة بولاق منذ تأسيسها(1820) ومن ثم يمكن أن نؤرخ بهذا التاريخ لبداية النشر الحقيقية في مصر.وتدخل المهنة بعد ذلك في صحوة كبيرة يقودها بعض المثقفين المخلصين.. فقامت مطابع الحلبي(1882) ودار المعارف(1890) ثم دار الهلال.. ودار التأليف.وسرعان ما جذبت المهنة مزيدا من الناشرين طوال النصف الأول من القرن العشرين حتي أنشئ عام(1951) الاتحاد المصري العام لدور النشر والمكتبات.. وأصدر مجلة( الناشر المصري) أول إصدار متخصص في الكتاب.. لكنها توقفت بعد عددين فقط.. وكان الاتحاد يجمع بين طرفين بعيدين.. مما دعا إلي الفصل بينهما ليصير النشر مهنة.. والمكتبة عملا تجاريا.. ثم قام بعد ذلك اتحاد الناشرين تحت مظلة الجامعة العربية ثم انفصل عنها.. وبدأ يحدد لنفسه قانونا خاصا إلي أن صار كيانا عربيا جمع الناشرين العرب.. وكيانات أخري إقليمية في كل بلد عربي.وبالرغم من هذا السياق التاريخي.. فإن مواصفات الناشر مازالت موضع خلاف مما حدا بكثير من مكتبات البيع إلي دخول هذه المهنة ونيل عضوية الاتحاد.. لمجرد أنه يملك رأس مال كبيرا.. وعددا من العناوين.واذا كانت مهنة النشر تقوم أساسا علي( كيف نحول الأفكار إلي كتب منشورة في أيدي القراء) ويشمل ذلك بالطبع تقنيات النشر ومواقيته.. فإن هذا الهدف لا يتحقق بغير دراسة دقيقة واعية لسوق الكتاب العربي والميول القرائية السائدة فيها.. وكيف نشبعها بالموضوعات والأفكار الملائمة في ظل منافسة قوية من وسائل الإعلام الأخري التي لا تحتاج إلي جهد..وللأسف الشديد لا توجد لدينا دراسات علمية موثوقة للميول القرائية.. وما ينشر بين الحين والآخر قد يقترب الي الحقيقة لكنه لا يؤكدها..وقد كانت مهنة النشر قبل خمس سنوات من الان تحاول ان نحقق لنفسها مكانة خاصة بين مهن العمل في المجتمع.. وتنافس الناشرون فيما بينهم في إصدار الكتب.. بل إن بعضهم وضع لنفسه سياسات خاصة لا ينافسه فيها غيره.. وكنا ـ قراء ـ سعداء بما ينشر.. ونتسابق الي قراءته.. حتي اتي يوم لوحت فيه( المعونة الأمريكية) بدولاراتها الخضراء للناشرين.. ووضعت شروطا لقبول أي كتاب في مشروعها يقوم علي البعد عن الكتب الدينية.. وعدم تكريس مبدأ الجهاد والمقاومة.. والعمل علي قبول الاخر ـ وما أدراك من هو الاخر! والتسامح ـ مع العدو طبعا ـ وغيرها من الشروط التي تسلب العربي شخصيته وهويته الخاصة.ورأينا ـ للأسف ـ بعض الناشرين يستجيبون.. بل يتآمرون فيما بينهم للنيل بأكبر قدر من( الكعكة الأمريكية) عازفين عن سياساتهم وخططهم الخاصة وعقودهم السابقة مع المؤلفين.. وتحولت المنافسة الشريفة ـ التي كانت في صالح القارئ الي عداوة ظاهرة بين الناشرين.ويبدو ان انشغال بعض الناشرين الكبار في هذا السباق المريب.. أفرز عددا من الناشرين الصغار الذين وجدوا الساحة أمامهم خالية تماما من المنافسة, والحق يقال إن هؤلاء الناشرين لم يدفعهم ـ كلهم ـ الطمع في الطفو علي السطح.وإذا كان لبعضهم رؤي جيدة في مجال النشر شغلت هذا الفراغ الذي أحدثه انصراف الناشرين الكبار عن الساحة الثقافية الي ساحة الدولار الأمريكي.تلك هي الصورة الحقيقية لما صارت عليه مهنة النشر اليوم.. بل يمكن ان يشكو بعض الناشرين الكبار من انخفاض معدل القراءة.. ومن ثم فهو يفضل ان ينشر لمؤلف يمتلك الشهرة أو الاسم الاعلامي.. أولي من أي مؤلف آخر يخاطر من أجله.إن قارئ اليوم ينتظر من الناشر ان يشبع ميوله القرائية لا ان يطبع الاف النسخ لكي يغلق عليها أبواب مكتبات المدارس باعتبارها عهدة يخشي عليها من الضياع.ثم الا يوافقني اصدقائي الناشرون المتشاحنون ان مهنتهم هذه هي ارقي المهن علي الاطلاق لانها تتعلق بالعقل والوجدان معا.. وان تاريخها هو قصة الحضارة الانسانية وتطورها.. وانهم بما يرتكبونه في حق المهنة وحق القارئ يسيئون الي هذا الكيان الجميل ـ الكتاب ـ الذي هو أولا وأخيرا سفير صادقالثقافة أي أمة.. ومن ثم يتطلب الامر يقظة حقيقية علي حال هذه المهنة قبل ان تنحدر الي متاهات مظلمة لا يخسر فيها سوي المثقف والقارئ معا..
أحمد سويلم، الأهرام، 3/12/2009
لم يدرك الإنسان القديم أهمية القراءة في الكتب.. فقد كانت أمامه صفحة الكون العظيم التي ألهمته التأمل والوصول إلي حقيقة الوجود.. والتي جعلته ينظر إلي أهمية وجوده فوق الأرض.. وضرورة توارث الأجيال.. ومن ثم اخترع كل ما يمكن أن يحقق له وللأجيال القادمة وسائل العيش الهائنة.وحين اشتدت الحاجة لديه إلي التفاهم مع الآخرين.. اخترع اللغة التي بدأت بالإشارة.. وانتهت إلي لغة لها مقوماتها الخاصة المرتبطة بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان في تسجيل أحداث حياته لعلها تنفع من يأتي بعده من سلالات البشر فاخترع الكتابة.. وكانت الصور أسبق من الحروف للتعبير عن تلك المجتمعات القديمة.. فقد وجدت خطوط ملتوية حول أواني الفخار.. وبصمات للأيدي علي جدران الكهوف وصور الطير والحيوان علي الأحجار.. وصور للأسلحة اليدوية في كل مكان.. وكان ذلك كله يعبر عن حاجات الإنسان الأول.. ومع ذلك لم يوفق العلماء في العثور علي أي وثائق مدونة ترجع إلي أبعد من(4000 ق.م) تقريبا وكانت في شكل إشارات لفظية برموز تصويرية في الكتابات المصرية والصينية والسومرية القديمة وغيرها..كما وجدت نقوش كثيرة بلهجات مختلفة فوق الجدران القديمة في العصر الجاهلي العربي.. لكن الصورة الحقيقية للكلمة المطبوعة كانت فيما يبدو في صورة شعر المعلقات التي قيل إنها كانت تعلق فوق الكعبة تعظيما وتشريفا. وسواء صح هذا الخبر أم لا.. فقد كان معروفا أن ملوك الغساسنة كانوا يحتفظون في خزائنهم بديوان يضم مدائح الشعراء.. كما أن صلح الحديبية كان مكتوبا.. وأن المسلمين جمعوا القرآن من فوق الجلود والأحجار والقحوف والورق إلي جانب الحفظة الموثقين.. ولقد تعلم العرب صناعة الورق من الصينيين الذين وقعوا في الأسر عند سقوط سمرقند(1751 م) وفي نهاية القرن الثامن كانت هناك صناعة للورق في بغداد وسوريا في عصر هارون الرشد.. ثم صدر العرب هذه الصناعة إلي صقلية والأندلس لتصل إلي أوروبا.تلك إذن بواكير الكلمة المطبوعة لدي الشعوب القديمة وأكثرها حضارة وفكرا..أما في العصور الحديثة.. فقد دخلت المطبعة مع الحملة الفرنسية علي مصر(1798) لكن النشر لم يقم كمهنة ذات هدف مشترك أو صناعة ذات مقومات وخطة يجتمع حولها القائمون علي أمرها.. وإنما نشأت كأية حرفة بدائية يتكسب صاحبها منها لقمة عيشه.. ولم يكن العاملون فيها من أبناء مدرسة مهنية تتيح لهم تطوير هذه المهنة.. ولم تكن خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر مطابع أهلية وإنما كان نشر الكتاب تقوم به مطبعة بولاق منذ تأسيسها(1820) ومن ثم يمكن أن نؤرخ بهذا التاريخ لبداية النشر الحقيقية في مصر.وتدخل المهنة بعد ذلك في صحوة كبيرة يقودها بعض المثقفين المخلصين.. فقامت مطابع الحلبي(1882) ودار المعارف(1890) ثم دار الهلال.. ودار التأليف.وسرعان ما جذبت المهنة مزيدا من الناشرين طوال النصف الأول من القرن العشرين حتي أنشئ عام(1951) الاتحاد المصري العام لدور النشر والمكتبات.. وأصدر مجلة( الناشر المصري) أول إصدار متخصص في الكتاب.. لكنها توقفت بعد عددين فقط.. وكان الاتحاد يجمع بين طرفين بعيدين.. مما دعا إلي الفصل بينهما ليصير النشر مهنة.. والمكتبة عملا تجاريا.. ثم قام بعد ذلك اتحاد الناشرين تحت مظلة الجامعة العربية ثم انفصل عنها.. وبدأ يحدد لنفسه قانونا خاصا إلي أن صار كيانا عربيا جمع الناشرين العرب.. وكيانات أخري إقليمية في كل بلد عربي.وبالرغم من هذا السياق التاريخي.. فإن مواصفات الناشر مازالت موضع خلاف مما حدا بكثير من مكتبات البيع إلي دخول هذه المهنة ونيل عضوية الاتحاد.. لمجرد أنه يملك رأس مال كبيرا.. وعددا من العناوين.واذا كانت مهنة النشر تقوم أساسا علي( كيف نحول الأفكار إلي كتب منشورة في أيدي القراء) ويشمل ذلك بالطبع تقنيات النشر ومواقيته.. فإن هذا الهدف لا يتحقق بغير دراسة دقيقة واعية لسوق الكتاب العربي والميول القرائية السائدة فيها.. وكيف نشبعها بالموضوعات والأفكار الملائمة في ظل منافسة قوية من وسائل الإعلام الأخري التي لا تحتاج إلي جهد..وللأسف الشديد لا توجد لدينا دراسات علمية موثوقة للميول القرائية.. وما ينشر بين الحين والآخر قد يقترب الي الحقيقة لكنه لا يؤكدها..وقد كانت مهنة النشر قبل خمس سنوات من الان تحاول ان نحقق لنفسها مكانة خاصة بين مهن العمل في المجتمع.. وتنافس الناشرون فيما بينهم في إصدار الكتب.. بل إن بعضهم وضع لنفسه سياسات خاصة لا ينافسه فيها غيره.. وكنا ـ قراء ـ سعداء بما ينشر.. ونتسابق الي قراءته.. حتي اتي يوم لوحت فيه( المعونة الأمريكية) بدولاراتها الخضراء للناشرين.. ووضعت شروطا لقبول أي كتاب في مشروعها يقوم علي البعد عن الكتب الدينية.. وعدم تكريس مبدأ الجهاد والمقاومة.. والعمل علي قبول الاخر ـ وما أدراك من هو الاخر! والتسامح ـ مع العدو طبعا ـ وغيرها من الشروط التي تسلب العربي شخصيته وهويته الخاصة.ورأينا ـ للأسف ـ بعض الناشرين يستجيبون.. بل يتآمرون فيما بينهم للنيل بأكبر قدر من( الكعكة الأمريكية) عازفين عن سياساتهم وخططهم الخاصة وعقودهم السابقة مع المؤلفين.. وتحولت المنافسة الشريفة ـ التي كانت في صالح القارئ الي عداوة ظاهرة بين الناشرين.ويبدو ان انشغال بعض الناشرين الكبار في هذا السباق المريب.. أفرز عددا من الناشرين الصغار الذين وجدوا الساحة أمامهم خالية تماما من المنافسة, والحق يقال إن هؤلاء الناشرين لم يدفعهم ـ كلهم ـ الطمع في الطفو علي السطح.وإذا كان لبعضهم رؤي جيدة في مجال النشر شغلت هذا الفراغ الذي أحدثه انصراف الناشرين الكبار عن الساحة الثقافية الي ساحة الدولار الأمريكي.تلك هي الصورة الحقيقية لما صارت عليه مهنة النشر اليوم.. بل يمكن ان يشكو بعض الناشرين الكبار من انخفاض معدل القراءة.. ومن ثم فهو يفضل ان ينشر لمؤلف يمتلك الشهرة أو الاسم الاعلامي.. أولي من أي مؤلف آخر يخاطر من أجله.إن قارئ اليوم ينتظر من الناشر ان يشبع ميوله القرائية لا ان يطبع الاف النسخ لكي يغلق عليها أبواب مكتبات المدارس باعتبارها عهدة يخشي عليها من الضياع.ثم الا يوافقني اصدقائي الناشرون المتشاحنون ان مهنتهم هذه هي ارقي المهن علي الاطلاق لانها تتعلق بالعقل والوجدان معا.. وان تاريخها هو قصة الحضارة الانسانية وتطورها.. وانهم بما يرتكبونه في حق المهنة وحق القارئ يسيئون الي هذا الكيان الجميل ـ الكتاب ـ الذي هو أولا وأخيرا سفير صادقالثقافة أي أمة.. ومن ثم يتطلب الامر يقظة حقيقية علي حال هذه المهنة قبل ان تنحدر الي متاهات مظلمة لا يخسر فيها سوي المثقف والقارئ معا..
أحمد سويلم، الأهرام، 3/12/2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق