٥ ديسمبر ٢٠٠٩

مهنة النشر‏..‏ والواقع الخطير

مهنة النشر‏..‏ والواقع الخطير
لم يدرك الإنسان القديم أهمية القراءة في الكتب‏..‏ فقد كانت أمامه صفحة الكون العظيم التي ألهمته التأمل والوصول إلي حقيقة الوجود‏..‏ والتي جعلته ينظر إلي أهمية وجوده فوق الأرض‏..‏ وضرورة توارث الأجيال‏..‏ ومن ثم اخترع كل ما يمكن أن يحقق له وللأجيال القادمة وسائل العيش الهائنة‏.‏وحين اشتدت الحاجة لديه إلي التفاهم مع الآخرين‏..‏ اخترع اللغة التي بدأت بالإشارة‏..‏ وانتهت إلي لغة لها مقوماتها الخاصة المرتبطة بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان في تسجيل أحداث حياته لعلها تنفع من يأتي بعده من سلالات البشر فاخترع الكتابة‏..‏ وكانت الصور أسبق من الحروف للتعبير عن تلك المجتمعات القديمة‏..‏ فقد وجدت خطوط ملتوية حول أواني الفخار‏..‏ وبصمات للأيدي علي جدران الكهوف وصور الطير والحيوان علي الأحجار‏..‏ وصور للأسلحة اليدوية في كل مكان‏..‏ وكان ذلك كله يعبر عن حاجات الإنسان الأول‏..‏ ومع ذلك لم يوفق العلماء في العثور علي أي وثائق مدونة ترجع إلي أبعد من‏(4000‏ ق‏.‏م‏)‏ تقريبا وكانت في شكل إشارات لفظية برموز تصويرية في الكتابات المصرية والصينية والسومرية القديمة وغيرها‏..‏كما وجدت نقوش كثيرة بلهجات مختلفة فوق الجدران القديمة في العصر الجاهلي العربي‏..‏ لكن الصورة الحقيقية للكلمة المطبوعة كانت فيما يبدو في صورة شعر المعلقات التي قيل إنها كانت تعلق فوق الكعبة تعظيما وتشريفا‏.‏ وسواء صح هذا الخبر أم لا‏..‏ فقد كان معروفا أن ملوك الغساسنة كانوا يحتفظون في خزائنهم بديوان يضم مدائح الشعراء‏..‏ كما أن صلح الحديبية كان مكتوبا‏..‏ وأن المسلمين جمعوا القرآن من فوق الجلود والأحجار والقحوف والورق إلي جانب الحفظة الموثقين‏..‏ ولقد تعلم العرب صناعة الورق من الصينيين الذين وقعوا في الأسر عند سقوط سمرقند‏(1751‏ م‏)‏ وفي نهاية القرن الثامن كانت هناك صناعة للورق في بغداد وسوريا في عصر هارون الرشد‏..‏ ثم صدر العرب هذه الصناعة إلي صقلية والأندلس لتصل إلي أوروبا‏.‏تلك إذن بواكير الكلمة المطبوعة لدي الشعوب القديمة وأكثرها حضارة وفكرا‏..‏أما في العصور الحديثة‏..‏ فقد دخلت المطبعة مع الحملة الفرنسية علي مصر‏(1798)‏ لكن النشر لم يقم كمهنة ذات هدف مشترك أو صناعة ذات مقومات وخطة يجتمع حولها القائمون علي أمرها‏..‏ وإنما نشأت كأية حرفة بدائية يتكسب صاحبها منها لقمة عيشه‏..‏ ولم يكن العاملون فيها من أبناء مدرسة مهنية تتيح لهم تطوير هذه المهنة‏..‏ ولم تكن خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر مطابع أهلية وإنما كان نشر الكتاب تقوم به مطبعة بولاق منذ تأسيسها‏(1820)‏ ومن ثم يمكن أن نؤرخ بهذا التاريخ لبداية النشر الحقيقية في مصر‏.‏وتدخل المهنة بعد ذلك في صحوة كبيرة يقودها بعض المثقفين المخلصين‏..‏ فقامت مطابع الحلبي‏(1882)‏ ودار المعارف‏(1890)‏ ثم دار الهلال‏..‏ ودار التأليف‏.‏وسرعان ما جذبت المهنة مزيدا من الناشرين طوال النصف الأول من القرن العشرين حتي أنشئ عام‏(1951)‏ الاتحاد المصري العام لدور النشر والمكتبات‏..‏ وأصدر مجلة‏(‏ الناشر المصري‏)‏ أول إصدار متخصص في الكتاب‏..‏ لكنها توقفت بعد عددين فقط‏..‏ وكان الاتحاد يجمع بين طرفين بعيدين‏..‏ مما دعا إلي الفصل بينهما ليصير النشر مهنة‏..‏ والمكتبة عملا تجاريا‏..‏ ثم قام بعد ذلك اتحاد الناشرين تحت مظلة الجامعة العربية ثم انفصل عنها‏..‏ وبدأ يحدد لنفسه قانونا خاصا إلي أن صار كيانا عربيا جمع الناشرين العرب‏..‏ وكيانات أخري إقليمية في كل بلد عربي‏.‏وبالرغم من هذا السياق التاريخي‏..‏ فإن مواصفات الناشر مازالت موضع خلاف مما حدا بكثير من مكتبات البيع إلي دخول هذه المهنة ونيل عضوية الاتحاد‏..‏ لمجرد أنه يملك رأس مال كبيرا‏..‏ وعددا من العناوين‏.‏واذا كانت مهنة النشر تقوم أساسا علي‏(‏ كيف نحول الأفكار إلي كتب منشورة في أيدي القراء‏)‏ ويشمل ذلك بالطبع تقنيات النشر ومواقيته‏..‏ فإن هذا الهدف لا يتحقق بغير دراسة دقيقة واعية لسوق الكتاب العربي والميول القرائية السائدة فيها‏..‏ وكيف نشبعها بالموضوعات والأفكار الملائمة في ظل منافسة قوية من وسائل الإعلام الأخري التي لا تحتاج إلي جهد‏..‏وللأسف الشديد لا توجد لدينا دراسات علمية موثوقة للميول القرائية‏..‏ وما ينشر بين الحين والآخر قد يقترب الي الحقيقة لكنه لا يؤكدها‏..‏وقد كانت مهنة النشر قبل خمس سنوات من الان تحاول ان نحقق لنفسها مكانة خاصة بين مهن العمل في المجتمع‏..‏ وتنافس الناشرون فيما بينهم في إصدار الكتب‏..‏ بل إن بعضهم وضع لنفسه سياسات خاصة لا ينافسه فيها غيره‏..‏ وكنا ـ قراء ـ سعداء بما ينشر‏..‏ ونتسابق الي قراءته‏..‏ حتي اتي يوم لوحت فيه‏(‏ المعونة الأمريكية‏)‏ بدولاراتها الخضراء للناشرين‏..‏ ووضعت شروطا لقبول أي كتاب في مشروعها يقوم علي البعد عن الكتب الدينية‏..‏ وعدم تكريس مبدأ الجهاد والمقاومة‏..‏ والعمل علي قبول الاخر ـ وما أدراك من هو الاخر‏!‏ والتسامح ـ مع العدو طبعا ـ وغيرها من الشروط التي تسلب العربي شخصيته وهويته الخاصة‏.‏ورأينا ـ للأسف ـ بعض الناشرين يستجيبون‏..‏ بل يتآمرون فيما بينهم للنيل بأكبر قدر من‏(‏ الكعكة الأمريكية‏)‏ عازفين عن سياساتهم وخططهم الخاصة وعقودهم السابقة مع المؤلفين‏..‏ وتحولت المنافسة الشريفة ـ التي كانت في صالح القارئ الي عداوة ظاهرة بين الناشرين‏.‏ويبدو ان انشغال بعض الناشرين الكبار في هذا السباق المريب‏..‏ أفرز عددا من الناشرين الصغار الذين وجدوا الساحة أمامهم خالية تماما من المنافسة‏,‏ والحق يقال إن هؤلاء الناشرين لم يدفعهم ـ كلهم ـ الطمع في الطفو علي السطح‏.‏وإذا كان لبعضهم رؤي جيدة في مجال النشر شغلت هذا الفراغ الذي أحدثه انصراف الناشرين الكبار عن الساحة الثقافية الي ساحة الدولار الأمريكي‏.‏تلك هي الصورة الحقيقية لما صارت عليه مهنة النشر اليوم‏..‏ بل يمكن ان يشكو بعض الناشرين الكبار من انخفاض معدل القراءة‏..‏ ومن ثم فهو يفضل ان ينشر لمؤلف يمتلك الشهرة أو الاسم الاعلامي‏..‏ أولي من أي مؤلف آخر يخاطر من أجله‏.‏إن قارئ اليوم ينتظر من الناشر ان يشبع ميوله القرائية لا ان يطبع الاف النسخ لكي يغلق عليها أبواب مكتبات المدارس باعتبارها عهدة يخشي عليها من الضياع‏.‏ثم الا يوافقني اصدقائي الناشرون المتشاحنون ان مهنتهم هذه هي ارقي المهن علي الاطلاق لانها تتعلق بالعقل والوجدان معا‏..‏ وان تاريخها هو قصة الحضارة الانسانية وتطورها‏..‏ وانهم بما يرتكبونه في حق المهنة وحق القارئ يسيئون الي هذا الكيان الجميل ـ الكتاب ـ الذي هو أولا وأخيرا سفير صادقالثقافة أي أمة‏..‏ ومن ثم يتطلب الامر يقظة حقيقية علي حال هذه المهنة قبل ان تنحدر الي متاهات مظلمة لا يخسر فيها سوي المثقف والقارئ معا‏..‏
أحمد سويلم، الأهرام، 3/12/2009

ليست هناك تعليقات: