دولة فايسبوك الإعلامية... تجسس وسلبيات تفوق الإيجابيات
لو كان الفايسبوك بلداً لأصبح ثالث أكبر دولة في العالم. بهذه الجملة يبدأ الصحافي والكاتب الألماني المعروف ساشا أداميك كتابه الشيق حول موقع التواصل الاجتماعي الشهير الصادر أخيراً في ألمانيا عن «دار هاينه» تحت عنوان «فخ الفايسبوك - كيف تبيع الشبكة الاجتماعية حياتنا». وفي الواقع، فإن عدد «السكان الافتراضيين» لـ «بلد الفايسبوك» يتراوح بين 500 و600 مليون شخص، يتحدثون ويتواصلون مع بعضهم بعضاً بواسطة 70 لغة مختلفة، ويكوّنون جماعات أو خلايا يصل عدد كل منها إلى 130 فرداً. ويومياً يفتح نصف المشاركين في شبكة الاتصال الاجتماعية هذه، أي ما بين 250 و300 مليون شخص، صفحاتهم ويدخلون الشبكة لتقصي أخبار معارفهم وسرد أخبارهم والاطلاع على الجديد في «بلدهم» العالمي الافتراضي. ويقضي أعضاء فايسبوك وقتاً مشتركاً مع قرائنهم يصل في المتوسط إلى 700 بليون دقيقة في الشهر، كما يقومون في هذه الفترة بتحميل حواسيبهم ثلاثة بلايين صورة وعشرة ملايين فيديو للاطلاع عليها.
ويقول الكاتب الألماني الذي اشتهر بتحقيقاته التلفزيونية الدقيقة التي يصورها لمجلات سياسية متلفزة معروفة، مثل «مونيتور» و «كونتراسته»، في الكتاب الثالث الذي يصدره حتى الآن إن مؤسس فايسبوك الشاب مارك زوكربيرغ، الذي أصبح خلال سنوات قليلة أصغر بليونير في العالم، انطلق من فكرة التواصل الاجتماعي بين أفراد المجتمع لتبادل علاقات اجتماعية أوثق وشفافة بين الراغبين في ذلك بحرية وانتقائية تامة، بما في ذلك من تبادل للأخبار والمعلومات والتهاني والصور، وكذلك الخبرات والرد على استيضاحات البعض وتساؤلاتهم، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي تؤمنها الشبكة لأعضائها.
والفكرة البسيطة التي طرحها مؤسس الشبكة وتتلخص في جعل العالم أكثر انفتاحاً على بعضه، وأكثر اتصالاً ببعضه بعضاً ليشكّل، ولو افتراضياً، مدينة عالمية متشابكة، لا يمكن أن تشكل في تشخيص أولي محذوراً لأحد، لكنها دخلت بعد فترة زمنية غير طويلة طرقاً ومسالك فرعية أو جانبية أوصلت المشروع بكامله إلى محاذير عدة يمكن أن تفوق في النهاية الإيجابيات. وأول ما حصل بعد فترة وجيزة من انطلاق الشبكة أن قوانين السوق الحرة فرضت نفسها على الوسيلة الاتصالية الجديدة باعتبارها نموذجاً مثالياً للعرض والطلب، أي للربح. ويقدر الكاتب أداميك عائدات الإعلانات والألعاب الالكترونية التي عرضت في الموقع عام 2010 الماضي بـ 1,1 بليون دولار. من هنا فقدت هذه الشبكة «طهارتها» وأصبحت مثل غيرها عرضة للبيع والشراء وميداناً خصباً لمؤسسات البحث عن أهواء ورغبات هذه الكمية الضخمة من المستهلكين وتحديد أعمارها ووضعها المالي بحيث تتمكن شركات الإعلانات وشركات الإنتاج من تقديم عروض خالصة ومعلبة تبعاً لحاجات الفئات المختلفة.
وإذا كان هذا الأمر مشروعاً إلى حد كبير في عالمنا اليوم، فإن الأخطر من ذلك الإمكانية التي أمنتها الشبكة لأطراف كثر، ليس للاستفادة منها فقط، بل ولاستغلال المعلومات الخاصة والحميمة التي ينشرها الكثيرون عن أنفسهم والمقرّبين منهم عن طيبة قلب أو عدم إدراك للمحاذير التي يمكن ان تحملها لهم. فمن جهة يمارس الموقع بعلم من مؤسسه عملية تجارية ربحية طاولت ولا تزال المعلومات الشخصية للمشاركين في الشبكة، على رغم الضمانات التي أعطتها الشبكة لهم بالحفاظ على سرية بعض هذه المعلومات. وفي هذا المجال نقل كاتب الكتاب عن لسان زوكربيرغ قوله عن أعضاء شبكته: «إنهم يثقون بي هؤلاء الحمقى»!
من جهة أخرى، وهنا بيت القصيد، تحوّل الموقع إلى مرتع خصب للأنظمة ولأرباب العمل والأجهزة الأمنية الداخلية والخارجية للتجسس على آراء المواطنين والعاملين لديهم، ومعرفة توجهاتهم السياسية والنقابية بهدف التعامل معهم كما يتوجب عند الحاجة والضرورة. صحيح أن الكاتب لم يلحظ الدور الذي لعبه «فايسبوك» و «تويتر» في ثورتي تونس ومصر، إن من جانب نظاميهما أو من جانب المعارضين المنتفضين عليهما، لأن كتابه كان أصبح تحت الطبع - صدر في شباط (فبراير) الماضي - لكنه لفت إلى دورهما خلال الانتفاضة الخضراء في إيران ضد النظام رداً على تزوير الانتخابات الرئاسية فيها. واستنتج عن حق أن أجهزة النظام الأمنية التي رصدت المواقع والصفحات التي تنشر أخبار الانتفاضة وقمع السلطة أجرت حملة اعتقالات واسعة في حق مطلقيها والمساهمين فيها. ومن هنا اعتبار أداميك هاتين الشبكتين (فايسبوك وتويتر) «فخاً» للنشطاء السياسيين والاجتماعيين.
وعلينا ألا ننسى هنا أيضاً منظمات «اللوبي» المختلفة، والمراكز والمؤسسات التي تتلقى الأموال من الدوائر السياسية والاقتصادية العليا من أجل العمل على خداع الناس وإقناعها من خلال وسائل علمية كاذبة بأفكار ومسائل غير صحيحة.
ولأن الباب مفتوح أمام الجميع في هذه الشبكة، فلا قدرة لأحد أن يمنع أحداً من الدخول إليها. ويسرد الكاتب أداميك مجموعة من الأمثلة حول ذلك ويحلل بصورة نقدية المحاذير أو المخاطر التي تهدد الحياة الخاصة للفرد المشارك في الشبكة ويدعوه إلى أخذ الحيطة والحذر من ذكر أشياء يمكن أن تسبب له لاحقاً متاعب معينة مع حكومته أو حكومات خارجية، أو رب عمله، أو طرف سياسي أو اجتماعي معيّن. وفي الوقت ذاته يعيب الكاتب على مؤسس «فايسبوك» رفضه نشر وثائق «ويكيليس» على شبكته، على رغم ادعائه أنه يرغب في عالم أكثر انفتاحاً وشفافية. وهو قرّر منع النشر بحجة أن هذا العمل «نشاط غير مشروع»، ولجأ إلى إقفال صفحة في الشبكة لنحو 30 ألف مناصر لها نشرت عدداً من وثائق «ويكيليكس».
ويقول أداميك في كتابه إنه لا يريد أن يعطي انطباعاً بأن كل شيء عاطل وأسود في فايسبوك، وأنه يعرف أن عشرات الملايين لم تعد قادرة على التخلي عنه، وتجد فيه متعة كبيرة من خلال ما يؤمنه من سهولة خارقة في الاتصال البشري المباشر الذي يتخذ طابعاً «خاصا» و «حميماً» من دون وجود رقابة مباشرة. لكنه يضيف أنه أراد من كتابه فتح العيون على أن المرء لم يعد وحده مع معارفه في «فايسبوك» منذ زمن طويل، بل هناك من هو قادر على رؤيته وسماعه ومعرفة أسراره في أية لحظة يشاء. وبقدر ما يفصح المرء عما في نفسه بقدر ما يعرض نفسه إلى احتمالات عدة تتدرج في محاذيرها من الأدنى إلى الأعلى. ويعلن بصراحة أنه غير مقتنع شخصياً بشبكة «فايسبوك»، ولم يصبح عضواً فيها إلا عندما قرر وضع كتاب عنها لتبيان الجانب السلبي فيها، ما ألزمه كباحث اعتماد صفحة خاصة به فيها لمتابعتها بصورة أفضل من الداخل أيضاً. وينهي أداميك مقدمة كتابه بالقول: "كونوا على ثقة: لسنا (في الفايسبوك) وحدنا".
الحياة ، 28/8/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق