١٨ ربيع الأول ١٤٣٠ هـ

رحيل ناشر محترم

رحيل ناشر محترم
للأستاذ الدكتور حشمت قاسم


في يوم الأربعاء السابع عشر من رمضان عام تسعة وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة نبينا المصطفي صلي الله علية وسلم، الموافق للسابع من سبتمبر (أيلول) عام ألفين وثمانية للميلاد، انتقل إلي رحمة مولاه المغفور له بإذن الله تعالي، الأستاذ / هاني أحمد عبد الحميد غريب، مدير دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة.
وكما هو الحال في مختلف المجالات والمهن، هناك في مجال النشر وصناعة الكتاب المحترم والمبتذل، هناك المحيط بأصول مهنته، الحريص علي قيمها، ويرعي الله في نشاطه وتعاملاته، ومن يضرب بقيم الأمانة والأصالة، والإجادة عرض الحائط. وفقيدنا، ولله الحمد، من الفئة الأولي باقتدار؛ إذ نشأ وترعرع في مجال الطباعة والنشر، وحرص علي الارتقاء بمستوي أدائه بتفان منقطع النظير.
عرفت الأستاذ/ هاني غريب في بداية سبعينيات القرن العشرين، طالباً بجامعة بيروت العربية؛ إذ كانت مطبعة غريب بشارع نوبار بالقاهرة تخطو خطواتها الأولي برعاية المغفور له بإذن الله تعالي الأستاذ / أحمد عبد الحميد غريب، الذي انتقل إلي رحاب ربه صيف العام 1984، ليحمل الرسالة من بعده أبناؤه الثلاثة، [عبد الحميد أحمد عبد الحميد ( عبده غريب ) الذي توفاه الله تعالي في ربيع العام 1998، وهاني الذي كرس جهده ووقته للمطبعة، وياسر الذي يتحمل الآن العبء الأكبر أعانه الله وسدد خطاه حتى تتواصل مسيرة العطاء الثقافي ].
وكانت بداية تعاملي مع آل غريب في خريف العام 1972، عن طريق الأستاذ عبده غريب رحمه الله، وقت أن كان مسئولا عن مكتبة غريب بشارع كامل صدقي، ثم تعرفت علي المغفور له بإذن الله تعالي الأستاذ / أحمد عبد الحميد غريب الذي كان قد بدأ يكرس وقته وجهده للنهوض بالمطبعة، وكان لي شرف التعامل مع هذه المطبعة لأول مرة في العام 1973، إذ كنت أتابع طباعة كتاب ((ثورة المعلومات)) الذي صدر في أكتوبر من ذلك العام. وفي ذلك السياق التقيت المغفور له بإذن الله تعالي الأستاذ/ هاني غريب . ثم استمرت علاقتي بآل غريب حتى يومنا هذا. وكانت علاقتي هذه بهذه الأسرة ومؤسستها مثار تساؤلات وتأويلات من جانب بعض الأقران والمعارف؛ فمنهم من تصور آل غريب أخوالي، ومنهم من تصورهم أصهاري، أما العلاقة الطيبة الخالصة لوجه الله تعالي فقلما كانت تخطر علي البال، في خضم العلاقات المضطربة الصاخبة بين المؤلف والناشر التي تكاد تكون السمة الغالبة للمجال.
استمرت علاقتي الطيبة بفضل الله تعالي بالوالد والأنجال، وكان البعض يرد استمرار هذه العلاقة السلسلة الهادئة إلي المعاملة السخية التي أحظى بها دون غيري من المؤلفين، وأعرب البعض تلميحاً أو تصريحاً عن وجود مثل هذه المعاملة. وكان بعض المؤلفين الجدد من معارفي يطلبون أن يعاملوا كما يعامل العبد الفقير إلي الله تعالي، ويجاب طلبهم فعلاً، ويفاجئون بأن ما يحصلون عليه أدني مما كانوا يطمحون إليه مادياً. وكان رد الفعل يختلف تبعاً لمدى القناعة والرضا، والحرص علي العلاقة الإنسانية القائمة علي التقدير المتبادل والمصارحة والمكاشفة واحترام القيم المهنية.
لقد نمت ولله الحمد بيني وبين آل غريب، ودار غريب، علاقة ود وصداقة، رضيت بها ووجدت فيها ضالتي، وسعدت بها ولم يكن بإمكاني التنكر لها، وحرصت علي صيانتها وتعزيزها؛ لم أساومهم يوماً، ولم أجد مبرراً للمفاضلة بينهم وبين غيرهم. وفضلاً عن الود والصداقة، حرصت علي وضع علاقتي العملية بهم في إطارها المهني القائم علي احترام حقوق الطرفين. فما يهمني كمؤلف هو إخراج كتابي بالصورة المرضية المناسبة ، والاطمئنان إلي التوزيع علي النحو المناسب ، وتلقي العائد في الوقت المناسب ، دون مماطلة أو مطالبة. وإمعاناً في الثقة ، لم أحرص يوماً علي توقيع عقد، ولم أحصل علي مثل هذا العقد إلا عندما فكر الإخوة في القسمة والانفصال. وقد جاء ذلك بمبادرة منهم، بعد ربع قرن من التعامل.
استمر الأخوة غريب في وئام وانسجام ، حيث تم توزيع مهام العمل علي ثلاثتهم إلي أن نزغ الشيطان بينهم ، وفشلت كل محاولات رأب الصدع، وانتهي الأمر بالانفصال ؛ إذ أصبح المغفور له بإذن الله تعالي الأستاذ / هاني غريب مسئولا عن إدارة دار غريب ، وأسس المغفور له بإذن الله تعالي الأستاذ/ عبد الحميد غريب دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، إلا أن الأجل لم يمهله لجني ثمار جهده؛ إذ توفاه الله تعالي في ربيع العام 1998 كما ذكرنا. ولإيماني بجدوى التكتل والاتحاد، لم أكن بحال راضياً عن هذه التطورات. ولكن لله في خلقه شئون ، وسبحان من له الدوام.
ظلت أعمالي المؤلفة والمترجمة ، كما كانت في دار غريب ، وأصبحت جميع تعاملاتي مع المرحوم هاني غريب ، واقتربت منه أكثر مما كان عليه الحال من قبل، لأجد فيه إنساناً بسيطاً ، واضحاً ، صريحاً ، ملتزماً ، عف اللسان ، متفانياً في عمله، قوي الإيمان ، زاهد في عرض الدنيا الفانية ... إلي آخر ذلك من الصفات التي شجعت علي مواصلة المسيرة بما يرضي المولي سبحانه وتعالي. ومهما حاولنا فإننا لا نستطيع أن نوفيه حقه ؛ فبرحيله تفقد الثقافة العربية والنشر وصناعة الكتاب في الوطن العربي ، ناشراً تشرب أصول المهنة وتشبع بقيمها، ولم يدخر وسعاً في رعاية الأصول والالتزام، ونسأل الله تعالي أن يتغمده بوافر رحمته ، ويسكنه فسيح جناته ، كما نسأل لذويه الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

للاستشهاد المرجعي:


حشمت قاسم. رحيل ناشر محترم (كلمة المحرر). مجلة دراسات عربية في المكتبات وعلم المعلومات. مج14 ، ع1 (يناير 2009). أيضا على مدونة المكتبيين العرب:
http://arab-librarians.blogspot.com/2009/03/blog-post_10.html
بتصريح من أستاذنا أ. د. حشمت قاسم.