٢٤ ربيع الأول ١٤٢٨ هـ

الحكومة الإلكترونية‏..‏ نجاح تقني وتعثر مجتمعي

الحكومة الإلكترونية‏..‏ نجاح تقني وتعثـر مجتمعـي
دفعتني صدمة التراجع المهين لمكانة مصر في التقرير العالمي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات لعام‏2007‏ إلي تقصي موقف مصر ببعض التقارير الدولية الأخري‏,‏ لأن التقرير المشار إليه ـ والذي تناولته بشيء من التفصيل الأسبوع الماضي ـ جعل الغالبية الساحقة مما يعلن من أرقام وتصريحات حول إنجازات هذا القطاع محل تساؤل ومناقشة‏,‏ ولأن برنامج الحكومة الإلكترونية من البرامج المهمة لتطوير الأداء الحكومي علي النطاق القومي وتختلف الآراء من آن لآخر حول مدي نجاحه وجدوي وجوده من الأصل‏,‏ فقد عكفت خلال الأيام الماضية علي مراجعة تقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة الخاصة بأوضاع برامج الحكومة في الـ‏192‏ دولة الأعضاء بالمنظمة‏,‏ وذلك
عن سنوات‏2003‏ و‏2004‏ و‏2005‏ لم يصدر تقرير عام‏2006‏ بعد‏,‏ وحاولت من خلالها استخلاص موقف البرنامج المصري طبقا للمعايير الدولية في هذا الشأن وليس كما يروج له من قبل القائمين عليه هنا وهناك‏.‏
من المهم في البداية بالطبع التعرف علي القواعد التي تعمل بها هذه التقارير والكيفية التي تقيس بها أوضاع برامج الحكومة الإلكترونية بالـ‏192‏ دولة‏,‏ فهذه التقارير تعد وتصدر نتائجها وفقا لخمسة معايير هي‏:‏ معيار قياس وتقييم الاستعداد الإلكتروني لتنفيذ برامج الحكومة الإلكترونية‏,‏ ومعيار قياس وتقييم جودة ونضج مواقع الحكومة الإلكترونية علي الإنترنت‏,‏ ومعيار قياس وتقييم مدي جودة وتأهيل رأس المال البشري اللازم لتنفيذ هذه البرامج‏,‏ ومعيار قياس وتقييم البنية الأساسية في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات‏,‏ ومعيار قياس وتقييم المشاركة الإلكترونية للمواطنين في برنامج الحكومة الإلكترونية‏.‏
ويفترض أن تمنح كل دولة درجة طبقا لأوضاعها في المجالات الخمسة‏,‏ ومن حاصل جمع المقاييس الخمسة يتم التوصل إلي متوسط عام أو درجة موحدة نهايتها العظمي الواحد الصحيح ويتحدد علي أساسها مرتبة أو موقع الدولة في المؤشر العام الرئيسي للتقرير‏,‏ ولذا فإنه كلما اقتربت الدرجة من الواحد الصحيح كان ذلك دلالة علي أن برنامج الحكومة الإلكترونية ناجحا وفعالا في تقديم الخدمات للمواطنين‏,‏ ومن ثم تحتل الدولة صاحبة هذا البرنامج مرتبة متقدمة في المؤشر العام والعكس‏.‏
وبعيدا عن التفاصيل الفنية المتعلقة بهذه المعايير وتقسيماتها الفرعية وتحت الفرعية يمكن استخلاص صورة موجزة لصورة وأوضاع برنامج الحكومة الإلكترونية المصرية من التقارير الثلاثة علي النحو التالي‏:‏
ـ أولا‏:‏ من حيث مكانة البرنامج المصري للحكومة الإلكترونية داخل المؤشر العام نجد أن مصر كانت تحتل المرتبة رقم‏140‏ عام‏2003‏ بدرجــة تقييـم متوسطــها العام‏0.19,‏ وفي عام‏2004‏ استطاعت تحقيق تحسن طفيف في ترتيبها داخل المؤشر العام‏,‏ وتقدمت أربع نقاط لتحتل المرتبة‏136‏ بدرجـة تقييــم متوسطــها العام‏0.22,‏ أما في عام‏2005‏ فكان التحسن ملحوظا إلي حد كبير‏,‏ حيث استطاعت مصر تحسين ترتيبها في المؤشر العام وتقدمت‏37‏ درجة لتحتل المرتبة رقم‏99‏ وتحصل علي درجة تقييم متوسطها‏0.32.‏
ـ ثانيا‏:‏ من حيث مكانة البرنامج المصري بكل معيار علي حدة كانت الأوضاع كالتالي‏:‏*‏ في معيار الاستعداد الإلكتروني كانت مصر تحتل المرتبة‏163‏ عام‏2003‏ بدرجة تقييم قدرهـا‏0.24,‏ ثم تمكنــت من تحسيــن أوضاعهــا في هذا المؤشــر عام‏2004‏ بمقدار‏25‏ نقطة لتحتل المرتبة رقم‏138‏ بدرجة تقييم قدرها‏0.27,‏ ثم واصلت مصر تحسين مكانتها مرة أخري عام‏2005‏ لتتقدم‏39‏ نقطة وتحتل المرتبـــــة‏99‏ بدرجة تقييم‏0.38.‏
*‏ وفي معيار قياس جودة ونضج موقع الحكومة الإلكترونية كانت مصـــر في المرتبــــة‏163‏ عام‏2003‏ بدرجة تقييم‏0.04‏ ثم تقدمت‏24‏ نقطة عام‏2004‏ واحتلت المرتبة‏140‏ بدرجة تقييم‏0.10,‏ ثم قفزت مصر في هذا المؤشر للمرة الثالثــة عــام ‏2005‏ وكسبت‏81‏ نقطة واحتلت المرتبة‏59‏ بدرجة تقييم‏0.45.‏
*‏ وفي معيار قياس رأس المال البشري كانت مصر تحتل المرتبة‏106‏ عام‏2003‏ بدرجة تقييم‏0.62,‏ ولم تتمكن مصر من تحسيــن أوضاعهــا في هذا المؤشــر عــام ‏2004 إلا بنقطة واحدة حيث احتلت المرتبة‏105‏ بدرجــة تقييــم بلغت‏0.63,‏ وفي عــام ‏2005 ‏ حسنت مصر أوضاعها بنقطتين فقط واحتلت المرتبة‏103‏ لكن درجة التقييم تراجعت إلي ما كانت عليه عام‏2003‏ وأصبحت‏0.62.‏
*‏ وفي المعيار الخاص بالبنية الأساسية التكنولوجية كانت مصر تحتل المرتبة‏140‏ في عام‏2003‏ بدرجة تقييم قدرها‏0.06,‏ وفي عام‏2004‏ استطاعت إحراز نقطتين فقط في هذا المعيار واحتلت المرتبة‏138‏ بدرجة تقييم‏0.07,‏ وفي عام‏2005‏ خسرت نقطتين وعادت لترتيبها السابق عام‏2003‏ وهو المرتبة‏140,‏ لكن درجة التقييم حافظت علي مستواها عند‏0.07.‏
*‏ أما في المعيار الخاص بالمشاركة الإلكترونية فكان ترتيب مصر‏131‏ عام‏2003‏ بدرجة تقييم‏0.02,‏ تراجع أربع نقاط عام‏2004‏ وأصبحت مصر في المرتبة‏135‏ بدرجة تقييم‏0.02,‏ وفي عام‏2005‏ حدث تحسن ملحوظ وتقدمت مصر‏54‏ نقطة واحتلت المرتبة‏81‏ بدرجة تقييم قدرها‏0.08.‏
ـ ثالثا‏:‏ علي مستوي الدول العشر التي جاورت مصر في الترتيب العام ـ الدول الخمس السابقة واللاحقة عليها ـ نجد أن مكانة مصر عام‏2003‏ كانت تدور في فلك دول مثل نيجيريا وتنزانيا ومدغشقر وتوجو ومالاوي وبنين وغانا ورواندا وباكستان وغينيا الجديدة‏,‏ وفي عام‏2004‏ تغير الوضع قليلا واقتربت من المغرب والكاميرون وسوريا وجزر سولون ونيبال‏,‏ وفي‏2005‏ غادرت مصر هذه الدول جميعا وأصبحت وسط مجموعة دول أخري من بينها إيران واندونيسيا وسيريلانكا وجرينادا وكوبا وألبانيا وأذربيجان وجواتيمالا
ـ رابعا‏:‏ علي المستوي الإفريقي كان ترتيب مصر عام‏2003‏ في المرتبة‏23‏ علي مستوي القارة وكان يسبقها غانا وجنوب إفريقيا وراوندا وتنزانيا والكاميرن والجابون وزيمبابوي وليسوتو وبتسوانا وموريشيوس وغيرها‏,‏ وفي عام‏2004‏ أصبحت تحتل المرتبة رقم‏19‏ علي القارة ويسبقها جنوب إفريقيا ومورويشيوس وسيشيل وبوتسوانا وسوايزلاند وأوغندا وناميبيا والجزائر وتونس والكونغو وغيرها‏,‏ وفي‏2005‏ أصبحت تحتل المرتبة رقم‏5‏ ولم يعد يسبقها علي مستوي القارة سوي موريشيوس التي تحتل المرتبة الأولي ثم جنوب إفريقيا في المرتبة الثانية ثم سيشل في المرتبة الثالثة وبتسوانا في المرتبة الرابعة‏.‏
ـ خامسا‏:‏ علي المستوي العربي كانت مصر تحتل المركز الثالث عشر عام‏2003‏ وتسبقها بالترتيب الإمارات والبحرين والأردن ولبنان وقطر والكويت والجزائر وعمان والسعودية وتونس والمغرب وسوريا‏,‏ وتليها السودان واليمن وليبيا والعراق‏,‏ وفي عام‏2004‏ أصبحت تحتل المركز الثاني عشر وتسبقها بالترتيب البحرين والإمارات والأردن ولبنان وقطر والسعودية والكويت والعراق والجزائر وتونس وعمان‏,‏ وتليها سوريا والمغرب والسودان واليمن‏,‏ وفي عام‏2005‏ أصبحت تحتل المرتبة الثامنة وتسبقها بالترتيب الإمارات والبحرين وقطر والأردن ولبنان والكويت والسعودية وتليها عمان والعراق وتونس والجزائر وسوريا والمغرب والسودان واليمن وليبيا‏.‏
نتائـج ودلالات
تقودنا الأرقام والأوضاع السابقة إلي بعض النتائج والدلالات حول برنامج الحكومة الإلكترونية المصري منها أن هناك تحسنا عاما في أوضاع البرنامج عكستها الأرقام الخاصة بالمراتب التي تحتلها مصر في المؤشر العام للتقرير ومؤشراته الفرعية‏,‏ فغالبيتها الساحقة ـ إن لم تكن جميعا ـ حدث بها تحسن بدرجات متفاوتة ما بين سنة وأخري ومؤشر وآخر‏,‏ وهذا أداء إيجابي يستحق التقدير لكونه يدل علي أن هناك جهودا تبذل من أجل التحسين والتطوير من سنة لأخري‏,‏ وأن هذه الجهود يتم تخطيطها وتنفيذها بطريقة تحقق نتائج ملموسة تظهر عند تحليلها وفقا للمعايير العالمية‏,‏ عكس العديد من الجهود الأخري التي يتم الإعلان عنها ليل نهار في أماكن كوزارة الاتصالات وهيئة تنمية صناعة المعلومات ثم لا نجد لها أثرا إيجابيا مماثلا عند خضوعها للتحليل دوليا‏.‏
بيد أن هذا التحسن لا ينفي أن هناك نقاطا مهمة يجب الانتباه إليها وفي مقدمتها أن التحسن الذي حدث كان وراءه القفزات التي حققتها مصر في معايير الاستعداد الإلكتروني وقياس جودة ونضج موقع الحكومة الإلكترونية والمشاركة الإلكترونية‏,‏ وهذه جميعا تتعلق بالجهود المبذولة علي المستوي التقني البحت ويمكن السيطرة عليها والتحكم فيها بقوة من قبل القائمين علي البرنامج‏,‏ أما معيارا رأس المال البشري والبنية الأساسية التكنولوجية فكان التقدم فيهما ضئيلا وتأرجح بين التقدم للأمام والرجوع للخلف علي الرغم من أنهما يتعلقان بأوضاع مجتمعية وتنظيمية وإدارية عامة‏,‏ والمعني الذي يمكن الخروج به من وراء ذلك أن البرنامج من الناحية الفعلية خطا ثلاث خطوات للأمام وخطوتين للخلف‏,‏ أو بمعني آخر يتحسن تقنيا ويتعثر أو يتباطأ مجتمعيا‏,‏ وهذه النتيجة لا تختلف عن الموقف الجماهيري العام تجاه البرنامج داخل مصر والذي يتمثل في تدني الثقة والإحساس به وبخدماته‏,‏ وفي اتخاذ مواقف في غير صالحه تظهر أحيانا بصورة لا تخلو من تهكم وسخرية‏.‏
انطلاقا من ذلك يمكنني القول أن تحسين أوضاع البرنامج المصري داخل المؤشر العام للتقرير ربما يكون قد بلغ حدوده القصوي في القدرة علي الإنجاز‏,‏ لأن استمرار التقدم داخل المؤشر بات مرهونا بالأساس بتحسين الأوضاع في المعايير المتعلقة بما هو مجتمعي وتنظيمي وإداري وليس ما هو تقني فقط‏,‏ ولذلك قد لا نشهد قفزات جديدة مشابهة في مكانة مصر بالتقارير المقبلة إذا استمر الفريق القائم علي البرنامج في الاعتماد علي تطوير البرنامج تقنيا فقط‏.‏
من المهم كذلك الإشارة إلي أنه مع كل هذا التحسن لا يزال الترتيب العام لمصر متأخرا كثيرا عما تستحقه‏,‏ فليس من المقبول أن تكون مصر في المرتبة‏99‏ في الترتيب العام دوليا‏,‏ وأن تكون الخامسة إفريقيا والثامنة عربيا علي الرغم من أن الكثير من العرب والأفارقة الذين يسبقوننا بمراحل الآن كنا حتي وقت قريب نمدهم بالخبرة والمعرفة‏.‏
جمال محمد غيطاس، الأهرام، 10/4/2007

ليست هناك تعليقات: