١٤ شوال ١٤٣٠ هـ

إطلاق «أوروبيانا».. أول مكتبة رقمية لكنوز التراث الأوروبي

إطلاق «أوروبيانا».. أول مكتبة رقمية لكنوز التراث الأوروبي
تدشن رسميا عام 2010 بمساندة 1000 مؤسسة ثقافية
أكثر من 250 مليون يورو هو المبلغ الأولي الذي رصد لإطلاق أول مكتبة أوروبية رقمية، للوقوف في وجه العملاق الأميركي ومشروعه الأخطبوطي «جوجل بوك».
«أوروبيانا» مكتبة في مرحلتها التجريبية، ستصبح في خدمة القراء، بعد أشهر قليلة بمخزون يصل إلى 6 ملايين مرجع عدا الكنوز السمعية ـ البصرية واللوحات التشكيلية النادرة. هذه المكتبة ستكون فخر الجهد الأوروبي المشترك في المجال المعرفي، بمساهمة 1000 مؤسسة ثقافية، وركيزة رقمية أساسية هدفها نشر التراث الأوروبي حول العالم.
إن كنت تبحث عن النصوص الأصلية لمؤلفات فيكتور هوغو، أو تسجيل قديم لإذاعة «بي بي سي»، أو خارطة من القرن الثامن عشر، فإن مسألة الاطلاع عليها لم تعد تتطلب منك أكثر من مجرد الدخول على الإنترنت. فالشبكة العنكبوتية لم تعد تكتفي بالترويج والتسويق للمنتجات الثقافية فحسب، بل إنها أصبحت تطال أيضا المكتبات، أعرق فضاءات الثقافة وأهمها على الإطلاق. فعلى الرغم من ضعف الإقبال على الكتاب الرقمي الذي لم يحقق بعد الرواج المنتظر، فإن فكرة إطلاق «المكتبات الرقمية» آخذة الآن في الانتشار بسرعة البرق، مثيرة شهية الأميركيين والأوروبيين.
وثمة تنافس حاد بين القطبين الشقيقين. فبعد شركة «جوجل» ومشروعها الضخم «جوجل بوك سورش» الذي يعرض لغاية اليوم ما يزيد على 10 ملايين مرجع، موضوعة في خدمة مستعملي الشبكة، ها هي القارة العجوز تطلق مشروع «أوروبيانا». وهي أول مكتبة رقمية من نوعها على المستوى الأوروبي. المشروع قديم جديد بما أن فكرته ترجع إلى سنة 2004 بإيعاز من الرئيس الفرنسي جاك شيراك وشركائه الأوروبيين الذين كانوا ينظرون بعين القلق لزحف العملاق الأميركي «جوجل بوك» على الثقافة الرقمية، بعد استحواذه على معظم محتويات المكتبات الأميركية، وانطلاقه في مغازلة أكبر مكتبات العالم، لاحتكار الصيغ الرقمية لمحتوياتها. آخر هذه المكتبات كانت «مكتبة ليون» التي تملك أكبر مجموعة مكتبية في فرنسا بعد «المكتبة الوطنية» والتي وقع معها «جوجل بوك» عقد احتكار.
مهمة التمويل والإشراف على مشروع أول مكتبة رقمية تعرف العالم بمختارات التراث الفني والفكري لدول المجموعة أوكلت لبروكسل، واختيرت مدينة لاهاي كمقر لها، أما الميزانية التي رصدت لها فهي تفوق 250 مليون يورو. ونظرا لأهمية المشروع فقد تقرر إطلاقه على عدة مراحل. المرحلة التجريبية كانت من 2005 إلى 2008، وتم فيها تركيز الجهود على تطوير التقنيات الرقمية في كبريات المكتبات الأوروبية والوصول إلى عرض 2 مليون مرجع. وعلى الرغم من أن التدشين تم فعليا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008، إلا أنه تقرر مد الفترة التجريبية نظرا لظهور مشاكل تقنية منذ الساعات الأولى لافتتاح الموقع بعد أن دخله أكثر من 10 ملايين زائر في الساعة، بينما كان ينتظر أقل من 4 ملايين. الانطلاقة الحقيقية منتظرة لسنة 2010 حيث يأمل القائمون على المشروع في تدارك النقائص، وفتح موقع المكتبة بصفة نهائية بأكثر من 6 ملايين مرجع مختلف.
دول المجموعة وإن كانت جميعها مشاركة في هذا المشروع، إلا أن الجهود والاهتمام ليس نفسه عند الكل. فرنسا التي تقف بقوة وراء هذا المشروع، وتعتبر أكثر الأعضاء حماسة، تتمتع بخبرة واسعة في المجال الرقمي الخاص بالمكتبات، مقارنة بجاراتها، حيث تزود «أوروبيانا» بأكثر من 52 من محتوياتها، ما يمثل 400.000 وثيقة مختلفة و83.000 كتاب، جميعها من المكتبة الوطنية الفرنسية. وكانت هذه الأخيرة قد انطلقت منذ 1996 في مغامرة التقنيات الجديدة عن طريق بوابة «غليكا» التي تعرض محتويات المكتبة لمستعملي الشبكة. فرنسا مدت أيضا المكتبة الرقمية بـ80.000 تسجيل إذاعي وتلفزيوني هي هبة من المعهد الوطني السمعي البصري. تلا فرنسا هولندا وبريطانيا اللتان تسهمان بنسبة 10%، وفنلندا 9% والسويد 7%، أما مجموعة الدول الثلاث والعشرين المتبقية فهي لا تسهم سوى بنسبة 24%. وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من المراجع إلا أن هذه النسبة لا تمثل في الواقع سوى 1% مما تزخر به مكتبات أوروبا من كنوز فكرية وفنية قيمة تقدر بملياري مرجع وكتاب. التأخر الذي لحق بالمشروع جعل اللجنة الأوروبية ترصد لسنة 2009 ـ 2010 ميزانية 120 مليون يورو خصيصا لمساعدة الدول الصغيرة كدول شرق أوروبا على تخطي هذه العقبات وتطوير تقنيات ترقيم تراثها الفكري. وهي تمارس في الوقت نفسه ضغوطات على الحكومات والقطاع الخاص للعمل على تدارك التأخر التقني لمكتباتها والمساهمة في تغطية تكاليف أخرى كالترجمة الفورية التي يحتاجها موقع المكتبة المصمم بجميع اللغات الرسمية الأوروبية، وكذلك تكاليف البحث والتطوير. مكتبة «أوروبيانا» هي أيضا أكثر من 1000 مؤسسة ثقافية تمدها بثرواتها المعرفية: 47 مكتبة 30 منها وطنية، ولكن أيضا مئات المتاحف ومراكز الأرشيف والمعاهد السمعية البصرية، التي تسهم جميعها بمواد مختلفة.. فإضافة إلى الكتب والمخطوطات والخرائط والصور الفوتوغرافية، توفر هذه المؤسسات صورا رقمية وبيانات عن التحف الفنية واللوحات، وأفلاما ومقطوعات موسيقية وشرائط تسجيلية نادرة وثمينة كتلك التي يعود تاريخها للحرب العالمية الأولى. بعض المؤسسات المتعاونة مع مشروع «أوروبيانا» ذات شهرة عالمية كمتحف «اللوفر» في باريس، «البريتش لايبروري» في لندن «غيرجكز موزويومRijksmuseum » في أمستردام، «المتحف الملكي البلجيكي»، «المكتبة الوطنية الإسبانية»، «الأرشيف الفيدرالي الألماني».. إلخ.
الأوروبيون لا يحبذون المقارنة التي يقيمها البعض بين مشروعهم والمشروع الأميركي «جوجل بوك». وهم يصرون على أن «أوروبيانا» هي تجربة منفردة، وليست منافسة لنظيرتها الأميركية بل مكملة لها. فـ«جوجل بوك» مشروع يملك أكثر من 10 ملايين مرجع، وقع اتفاقيات شراكة مع جميع المكتبات الأميركية وكذلك الجامعات العريقة كـ«أوكسفورد»، «هارفارد» و«ستانفورد»، مهتما أساسا بجمع المراجع الأميركية ومعظمها باللغة الإنجليزية، بينما تهتم المكتبة الأوروبية بكل التراث الأوروبي على اختلاف مصادره وأنواعه ولغاته. و«أوروبيانا» إن كانت تملك أقل من «جوجل بوك» (4.6 مليون مرجع لغاية الآن) إلا أنها تنفرد بمجموعات نادرة وثمينة من روائع الأدب العالمي، لا توجد في أي مكان آخر من العالم، كالمؤلفات الأصلية لفيكتور هوغو، شكسبير، فلوبير، ومجموعات الرسام دالي وفان غوخ وليوناردو دافنشي. على أن الاختلاف الجوهري يكمن في طبيعة المشروع الذي أراده الأوروبيون موجها أساسا للمنفعة العامة، وهم يصرون على أنه خال من أي غرض ربحي. فالمكتبة الرقمية الأوروبية تؤدي فعلا الدور الذي ننتظره من أي مؤسسة ثقافية عامة وهو: تشجيع العلم ونشر الثقافة والمعرفة مجانا ودون تمييز، خلافا لمشروع «جوجل بوك» الذي بدأ مجانيا ثم تحول إلى مشروع تجاري ضخم يدر على أصحابه ملايين الدولارات بعد أن وقع مسؤولو محرك البحث الأميركي عقدا مع جمعية الناشرين الأميركيين (guilde) بقيمة 126 مليون دولار لبيع مؤلفاتهم على الشبكة.
آراء أميركية وأوروبية ترى أن مصلحة الطرفين هي في تعاونهما لإنشاء مكتبة عالمية كبيرة. «أوروبيانا» بمجموعاتها القيمة الثمينة والمتنوعة و«جوجل بوك سورش» بفضل قوته كمحرك بحث، وتفوقه في مجال التقنيات الرقمية المتطورة. وسواء تم ذلك أم لا، فإن انتشار المكتبات الرقمية ينذر بأفول نجم المكتبات التقليدية، تلك المؤسسات العريقة التي عهدناها ملتقى للطلاب والباحثين ومحبي الثقافة والمعرفة. وهو ما يبشر ببزوغ مستقبل جديد تكون فيه المعرفة بالوسائل الرقمية في موقع الصدارة.
الشرق الأوسط ، 24/9/2009

ليست هناك تعليقات: