٦ أغسطس ٢٠١٠

الإنترنت.. هل هي وسط جيد لثقافة مميزة وجديدة؟

الإنترنت.. هل هي وسط جيد لثقافة مميزة وجديدة؟
الوسائط الرقمية سهلت انتشار نتاجات تافهة
يقدر مستخدمو الإنترنت في العالم حاليا بنحو 1.8 مليار مستخدم. وقد أدى انتشار الوسائط الرقمية، إلى تحويل إنتاج النصوص والملفات الصوتية والمصورة ونشرها إلى عملية سهلة ورخيصة على نطاق العالم كله. إلا أن هذا الحجم الكبير من المعلومات المتوافرة، هو حاليا من إنتاج أشخاص لا يفقهون إلا القليل من الإجراءات الاحترافية الخاصة بهذه الوسائط ووسائل الإعلام.
وينتج هؤلاء الهواة سيلا لا ينتهي من المواد الضعيفة التي لا صلة لها بالمواد المقبولة التي اعتادها الإنسان حتى عهد قريب، كما يقول كلاي شيركي مؤلف كتاب «فيض الإدراك: الإبداع والكرم في عالم شبكي» في مقال له في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، مما يؤدي إلى توقعات متزايدة مثيرة للذعر، من الفوضى والانهيار الثقافي.
وهذا بالطبع ما يحصل على مر الزمن، فكل زيادة في الحرية لإنتاج الوسائط هذه، أو استهلاكها، ابتداء من الكتب الورقية وانتهاء بـ«يوتيوب»، من شأنها أن ترعب الأشخاص الذين اعتادوا أطر النظام القديم، وتجعلهم يقتنعون أكثر بأن هذا الوسط الجديد يجعل الشباب يبدون أكثر غباء. ومثل هذه المخاوف ترجع إلى اختراع الوسائط الجوالة.
تاريخ حافل عندما انتشرت أولى المطبوعات عبر أوروبا، جرت ترجمة بعض الكتب، ومنها الدينية إلى اللغات المحلية التي مكنت من الاتصال المباشر مع النصوص. لكن هذا الأمر رافقه فيض من الأدب المعاصر كان أغلبه من مستويات متدنية. وأثارت بعض الكتابات اضطرابات وقلاقل، وانتشرت مزاعم بأنه إذا لم تجر السيطرة على الطباعة وما تنشره، فإن ذلك سيؤدي إلى إفلات زمام الأمور والقضاء على الحياة الثقافية الأوروبية.
وكانت هذه المزاعم صحيحة طبعا، فقد شرع المجتمع في بناء أمور طبيعية جديدة تدور حول الأدب الجديد المعاصر، إذ تم ابتكار جميع الروايات والصحف والمجلات العلمية، والفصل بين ما هو خيالي، وغير خيالي، خلال انهيار النظام الأدبي التافه، وهذا ما كان له الأثر البالغ في تعزيز المد الثقافي والمنتوج الاجتماعي بدلا من إضعافهما. وأكبر مثال على ذلك الثورة العلمية ومشاركة الكثيرين بها، بحيث أسهمت الطباعة في نشر الأبحاث بسرعة، وعلى نطاق واسع، مع إضافة قيود ثقافية جعلتها ذات قيمة كبيرة. ثورة معلوماتية نحن نعيش اليوم ثورة عارمة شبيهة بالماضي في مجالات قدرات النشر، حيث يربط الإعلام الرقمي أكثر من مليار شخص في شبكة واحدة. ويتيح مثل هذا التواصل لنا التعبير عن معارفنا، فضلا عن تمضية آلاف المليارات من الساعات سنويا من وقت الفراغ الذي يقضيها المثقفون على هذه الأرض في القيام بالأعمال التي تهمهم، بينما كان الناس يقضون غالبية أوقاتهم في القرن العشرين في مشاهدة التلفزيون. وقد أضحى فائض معارفنا وإدراكنا كبيرا بحيث إنه لو جرى تحويل جزء يسير من الزمن الذي نستغرقه لهضم المعارف واستيعابها، إلى زمن للمشاركة في إنتاج معارف أخرى، لكنا أنتجنا معارف إيجابية كبيرة جدا.
وكانت «ويكيبيديا» قد اتخذت فكرة المراجعة الصحيحة وطبقتها على المتطوعين على نطاق عالمي لتصبح أهم مرجع باللغة الإنجليزية في أقل من 10 سنوات، ومع ذلك فإن مجموع الزمن المتراكم الذي كرس لتأسيس «ويكيبيديا» الذي يبلغ نحو 100 مليون ساعة من الفكر البشري، يجري اليوم إنفاقه من قبل الأميركيين في نهاية كل عطلة أسبوعية في مشاهدة الإعلانات فقط. فالأمر لا يستغرق أكثر من تحول جزئي من الاستهلاك نحو إلى اتجاه المشاركة لإنتاج مصادر ثقافية وتعليمية جديدة.
تشارك رقمي وعلى النمط ذاته، فإن البرامج مفتوحة المصدر التي تفتقر إلى السيطرة الإدارية عليها من قبل أصحابها، أو الذين عملوا عليها، كانت عاملا حيويا في انتشار الشبكة وإجراء الأبحاث المختلفة عن كل الأمور الصغيرة والكبيرة. وتخصصت مواقع مثل «بايشنت لايك مي» بتسريع الأبحاث الطبية عن طريق جعل المرضى يتوجهون علنا للتشارك في المعلومات الصحية.
طبعا ليس الجميع مهتمون بالمشاريع العلمية والثقافية رفيعة المستوى، كلما ازدادت وسائط الإعلام ووسائلها. فقد تدنى مستوى الجودة بسرعة في الوقت الذي نمت من الناحية الأخرى النماذج المؤسساتية الجديدة التي تنشد الجودة والنوعية ببطء. وهذا ما يحدث دائما، ففي تاريخ الطباعة كانت هناك روايات خليعة قبل 100 سنة من نشوء المجلات العلمية. وهذا ما دعا بعض الشخصيات إلى الشكوى من أن «كثرة الكتب هي شر كبير» بزعم أن غالبيتها تصرف الانتباه عن الأمور الجيدة والمفيدة، بينما علقت شخصيات أخرى على ثورات النشر بأن كثرة المنشورات وصدور الكتب في كل مجالات المعرفة هي أحد مساوئ هذا العصر، لأنها تشكل عقبة كأداء أمام اكتساب المعرفة الصحيحة! تواؤم مع العصر لقد تشكلت استجابة الإنسان لتشتيت فكره بعيدا عن مهمات البحث عن قوته، وفق بنية اجتماعية. فالإنسان لم يكن مهيئا لقراءة الكتب في الأصل، كما هو الحال في أنه ليس مهيئا لاستخدام الكومبيوتر. إلا أن المجتمعات أصبحت متعلمة ومثقفة عن طريق الاستثمار في لمصادر الجيدة غير العادية مدربة الأطفال سنويا على القراءة. والآن جاء دورنا في العثور على الاستجابة الصحيحة اللازمة لتشكيل وسائل استخدامنا للأدوات الرقمية وتنظيمها للاستفادة منها في ثقافتنا. إن التسخيف الحالي في المحتويات الرقمية يعني فشلنا في جعل الحريات الرقمية تتكامل مع المجتمع مثلما فعلنا مع العلوم والمعارف. ويقوم مثل هذا الافتراض بدوره على ثلاثة معتقدات: الأول هو أن الماضي القريب كان رائعا ولا يمكن تعويضه على صعيد الإنجاز الفكري. والثاني أن الحاضر مميز بالمواد السخيفة. والثالث أن هذا الجيل من الشباب سيفشل في تحديد المستويات الثقافية العادية بالنسبة إلى الإنترنت، كما فعل المفكرون في القرن السابع عشر بالنسبة إلى الثقافة المطبوعة. لكن في المقابل هناك أسباب تجعلنا نعتقد أن الإنترنت ستعزز من الإنجازات الفكرية بالنسبة إلى مجتمع القرن الواحد والعشرين. فالماضي الوردي بالنسبة إلى المتشائمين ليس ذلك الوردي إذا نظرنا إلى الأمور عن كثب. فالحقبة التي يود هؤلاء إرجاعنا إليها هي في الثمانينات، أي الفترة الأخيرة قبل أن يكون للمجتمع أي حرية رقمية تذكر. فعلى الرغم من إجلالنا للروايات الأوروبية، لكننا كنا نقضي الوقت في مشاهدة البرامج التلفزيونية العادية بدلا من قراءة مارسيل بروست. لكن الشبكة أعادت لنا في الواقع إمكانية القراءة والكتابة لتشكل محور نشاطاتنا الثقافية. صحيح أن الحاضر كما هو ملاحظ يتميز بالكثير من التفاهات التي يمكن التخلص منها، لكن الشيء الجيد فيها أنه يمكن التخلص منها، وهذا ما يحصل. وهذا ليس وقفا على الشبكة فحسب، بل إنه وقف على مخازن الكتب أيضا. والمسألة هنا حول ما إذا كانت هناك أي أفكار جيدة اليوم التي يقدر لها العيش والبقاء في المستقبل. ويبدو أن الكثير من فائض معارفنا، كالبرمجيات مفتوحة المصدر مثلا ستجتاز مثل هذا الامتحان.
والماضي لم يكن ذلك العصر الذهبي، ولا الحاضر، كما يعتقد المتشائمون، لكن الأمر الوحيد الجدير بالنظر إليه هو المستقبل، وخاصة أننا نشهد اليوم التطور البطيء للبدائل الثقافية. فكما كانت الثقافة في الماضي هي رد فعل للطباعة، فإن استخدام الإنترنت بشكل جيد اليوم سيتطلب تأسيس مؤسسات ثقافية جديدة أيضا، وليس تقنيات فحسب. ولكن مع رغبتنا في الحصول على مجلات علمية مثلا، فإن الحرية التي توفرها الوسائط الحديثة تعني أيضا زيادة في المواد التافهة، والمهمة التي نواجهها هي في كيفية اختبار وسائل جديدة لاستخدام هذه الوسائط الاجتماعية الرخيصة الموجودة معنا دائما وتوسيع انتشارها لنغير بها وجه الواقع.
الشرق الأوسط ، 27/7/2010

ليست هناك تعليقات: