سادت في العقود الأخيرة نظرة عامة جامدة مفادها أن التكنولوجيا ليست سوى انعكاس زاهر للتقدم العلمي والعملي، وكان يجري تقديم ذلك التقدم بصفته أمرا مستقلا عن الحراك السياسي والاجتماعي العام، وبصفته أمرا باردا لا يقارب دواخلنا إلا في كونه أمرا تقنيا خالصا. لكن الأسابيع الأخيرة وبعد التغيير الهائل في تونس والحراك الشبابي الصارخ اليوم في مصر تغير هذا المفهوم الكلاسيكي بشأن التكنولوجيا ربما إلى الأبد.
ما كنا نعتقده نتاجا علميا محايدا بات اليوم سلاحا ذا حدين، بالنسبة للأنظمة على الأقل.
اليوم، انتقلت التكنولوجيا من كونها فرصة لتعزيز التواصل الحيادي والسلبي بين الأفراد والجماعات إلى كونها أداة تغيير خلاقة مفعمة بالمعاني والأفكار. هي ربما لا تصنع ثورة كاملة لكنها بالتأكيد توفر لها آليات الحراك والتنسيق والمعرفة.
في تونس وحدها ارتفع عدد المنتسبين إلى موقع «فيس بوك» بنسبة 8 في المائة في الأسبوعين الأولين من العام الحالي. وتقول الأرقام إن 75 في المائة من مستخدمي «فيس بوك» العرب هم ما بين الـ15 والـ29 عاما. أتاح هذا الموقع إلى جانب «تويتر» للشباب المصري أن يظهر غضبه وتذمره وينسق آليات تحركه.
في دول أخرى ليست ببعيدة من مصر، عطلت بعض الحكومات مواقع إلكترونية على نحو مؤقت تحسبا لتحركات مماثلة كتلك التي شهدتها مصر. إذن، نحن اليوم أمام مشهد جديد إنما آليات الإحاطة به لا تزال مغرقة في تقليديتها لكوننا جديدين في هذا المجال.
يبدو أن التطور التقني أتاح وصول وسائل الاتصال إلى فئات غير تقليدية وجماعات يمكن أن تستثمر في مجال التغيير السياسي. في المقابل أفسح هذا التطور المجال للأنظمة وللجهات الأمنية حصار محاولات التغيير وخنقها إذا استطاعت وهي لم تتردد في ذلك كما شهدنا ونشاهد في مصر ودول أخرى كثيرة.
في سورية، توقف «فيس بوك» يوم الاحتجاج الافتراضي الذي حدد في 5 فبراير (شباط)، بل وجرى تطويق التحرك عبر تسيير مسيرات سيارة تدعم الرئيس السوري بشار الأسد. في الأردن جرت قرصنة مواقع إلكترونية لنشرها بيانات تدعو للتحرك والتظاهر. في مصر ولولا الطلب الأميركي المباشر بوقف حجب الإنترنت لربما كان شباب ميدان التحرير معزولين عن التواصل..
قبل أيام، أطلق سراح وائل غنيم بعد أن احتجزه الأمن المصري 12 يوما أي منذ اندلاع المظاهرات. ووائل هو المدير التنفيذي لشركة «غوغل» في الشرق الأوسط وهو الذي كان يقف وراء تأسيس مجموعة «كلنا خالد سعيد» وأحد أبرز الداعين لمظاهرات 25 يناير (كانون الثاني) الماضي. يقول غنيم إن بعضا ممن حققوا معه استعمل عبارة «هو إنت من عيال فيس بوك».
وائل غنيم هو اليوم بصدد التحول إلى ممثل للشباب المحتشدين في ساحة التحرير ومفاوض عنهم، وعدد المنتسبين إلى صفحته في موقعي «تويتر» و«فيس بوك» تجاوز المائة والثلاثين ألفا.
من الواضح أن التكنولوجيا صنعت وجوه التغيير في مصر..
من هذه الوجوه من سقط ضحية في ميدان التحرير ومنهم من بقي معلنا أنه سيواصل حراكه..
ديانا مقلد ، الشرق الأوسط ، 10/2/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق