٢٩ ذو القعدة ١٤٢٩ هـ

تفتيش العرب في قمامة الإنترنت‏..‏ دلالات ومعاني

تفتيش العرب في قمامة الإنترنت‏..‏ دلالات ومعاني
جمال محمد غيطاس

لم تكن النتائج التي عرضتها الأسبوعين الماضيين حول اتجاهات البحث علي الإنترنت لدي المصريين والعرب مفاجئة في معظم جوانبها‏,‏ بل كانت متوقعة إلي حد كبير‏,‏ ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنها أشياء محسوسة لدي الكثيرين لكن لم يتم قياسها بأداة قياس محايدة ولها ثقل جدير بالاحترام مثلما فعلت خدمة‏'‏ اتجاهات البحث علي جوجل‏'‏ التي ترصد وتحلل أكثر من نصف عمليات البحث الجارية علي الإنترنت حول العالم علي مدار اللحظة‏,‏ ومن هنا فالأمر لا يجب أن يقف عند مجرد رصد هذه الاتجاهات ورصد بعض فعالياتها‏,‏ بل يتطلب إعادة القراءة ومحاولة الخروج ببعض الملاحظات والدلالات‏,‏ وهذا ما سأحاول القيام به اليوم‏.‏
علي المستوي العربي يمكننا الخروج من النتائج السابقة بالملاحظات التالية‏:‏‏

‏‏*‏ يلقي الوضع السياسي الاقتصادي الذي تعيشه المجتمعات العربية بظلال ثقيلة علي وجودهم واتجاهاتهم البحثية علي الإنترنت‏,‏ فحالة التهميش التي تعيشها قطاعات واسعة من هذه المجتمعات ووقوع عشرات الملايين خارج دائرة التنمية المجتمعية الشاملة والجادة المعتمدة علي الذات والتي تستشرف المستقبل وتستحث الهمم‏,‏ جعلتهم علي الإنترنت هامشيين في وجودهم وهامشيين في اتجاهاتهم البحثية أيضا‏.‏ولأن معظم المجتمعات العربية تعيش درجات متفاوتة الحدة من التسلط والقهر والكبت السياسي وتفتقد الحرية والديمقراطية ويغيب عنها التدفق الحر للمعلومات‏,‏ ولا تملك حلما يولد أملا في المستقبل‏,‏ فقد نجم عن ذلك أن النسبة الغالبة من العرب الباحثين عن المعلومات علي الإنترنت يهيمون علي وجهوههم عبر الشبكة بلا هدف كما لو كانوا يلجأون إلي مواقعها هربا من واقعهم الصعب المليء باليأس والقنوط وفقدان الأمل‏,‏ ليمارسوا علي الشبكة سلوكا مشابها لما يفعله الكثيرون منهم في الحانات وغرز المخدرات ونواصي الشوارع أو علي الأقل الجلوس في تبلد أمام تفاهات الفضائيات بلا إحساس بالوقت أو المستقبل‏,‏ وكان أكبر تجسيد لذلك هو الهوس بالبحث عن المواد المتعلقة بالجنس‏.‏


*‏ يبدو من النتائج التي ذكرت خلال الأسبوعين الماضيين أن الآثار المترتبة علي ضآلة المحتوي العربي تجاوزت العجز عن إثبات الوجود في عالم المعلومات شديد التغير والتقلب ودخلت مرحلة تهديد الوجود ذاته‏,‏ فالنتائج تدل علي أن العرب عاجزون عن تدبير احتياجاتهم من الموارد المعلوماتية والبحثية التي تتسم بالقيمة والأحجام المناسبة التي تسد احتياجات البحث‏,‏ ويمكن للعرب توظيفها عمليا بشكل جاد‏,‏ وبالتالي فإنهم حينما يبحثون يتجهون إلي المحتوي غير العربي في كل المجالات‏,‏ وحتي حينما يستخدمون مفردات عربية قاصدين الحصول علي محتوي ومعلومات عربية يتلقون محتوي غير عربي يتجاوز في بعض الأحيان المحتوي العربي ويتفوق عليه‏,‏ وهنا لست في حاجة إلي الخوض كثيرا في خطورة ذلك علي الهوية والثقافة والمزاج العام واتجاهات التفكير والسلوك لدي العرب‏,‏ وأن الإنترنت تتحول عمليا إلي أداة تخصم من ثروة ورصيد العرب في كل ذلك وترسخ انسحاقهم أمام المحتوي والمعلومات والبيانات الوارد من ثقافات أخري‏,‏ ناهيك عن أن العرب يركزون علي قمامة هذا المحتوي وهو الجنس‏.‏‏
*‏ تظهر النتائج أن اللغة العربية علي الشبكة في خطر حقيقي وداهم بأكثر مما نتصور‏,‏ فالأمر علي ما يبدو ليس مقصورا علي قلة المحتوي الموجود بالعربية‏,‏ بل يشمل أيضا أنه عند البحث بمفردات عربية عن محتوي عربي يظهر في نتائج البحث محتوي بلغات أخري غير العربية بدرجة أكبر بكثير من ظهور المحتوي العربي عند البحث بمفردات لغة أخري كالإنجليزية مثلا‏,‏ والاستثناء الوحيد من هذه القاعدة كان في مجال المواد الجنسية‏,‏ وهذا يعني أمرين‏:‏ الأول أن القائمين علي المواقع ذات المحتوي المكتوب بالعربية لا يهتمون كما ينبغي بفهرسة وتصنيف مواقعهم داخل محركات البحث العالمية الكبري بالطريقة التي تجعلها تظهر عند البحث بمفردات لغة أخري‏,‏ أي أن مواقعنا العربية متخلفة في هذا الجانب‏,‏ والأمر الثاني أن العرب لا يبحثون فقط عن المواد الجنسية عبر الشبكة‏,‏ بل ينتجون ويضخون محتوي جنسي علي الشبكة بات يتبوأ مراكز متقدمة في نتائج البحث سواء كانت عمليات البحث بالعربية أو بغيرها‏.‏‏
*‏ ظهر الإيرانيون كمنافس قوي وخطير اكتسح العرب في البحث عن المحتوي العربي‏,‏ فعند البحث بالمفردات العربية احتلت إيران المركز الأول عند البحث عن الاقتصاد والعلوم علي مستوي الدول‏,‏ واحتلت المدن الإيرانية المراكز العشرة الأولي عند البحث عن العلوم والاقتصاد علي مستوي المدن‏,‏ كما احتلت خمسة مراكز عند البحث عن الدين‏,‏ وهذا معناه أنهم المستهلك الأكبر للمحتوي العربي الجاد علي الشبكة علي الرغم من ضآلته‏,‏ كما تفوقت الفارسية علي العربية في العديد من المجالات سواء في عمليات البحث أو في عرض النتائج‏,‏ واعتقد أننا بحاجة للتوقف عند هذه الظاهرة ودراستها جيدا في ظل مجمل التغيرات والمناوشات والمنافسات التي لا تنقطع بين العرب وإيران‏.‏
وعلي المستوي المصري يمكن الخروج بالملاحظات التالية‏:‏‏*‏ تدل النتائج علي أن حالة السلبية السياسية والعزوف عن المشاركة السائدة بين الجمهور المصري العام قد انتقلت إلي الجمهور العريض من مستخدمي الإنترنت في مصر‏,‏ فقد كشف التحليل أيضا عن أن حجم عمليات البحث عن السياسة بمفردات البحث العربية كان في مرتبة ضعيف واتخذ مسارا متذبذبا صعودا وهبوطا بشكل واضح خلال فترة الدراسة‏,‏ وعند استخدام كلمات البحث المفتاحية الإنجليزية اتضح أن حجم عمليات البحث عن السياسة منعدم خلال فترة التحليل‏,‏ وهنا يمكننا القول إنه علي الرغم من الضجيج السياسي الزاعق في الصحافة المكتوبة والفضائيات والعديد من مواقع الإنترنت فإن الجمهور العام من المصريين علي الإنترنت لا يأبه بكل هذا الضجيج ولا يقبل علي البحث في الموضوعات السياسية بل يمارس السلبية أيضا‏,‏ وهذا مؤشر علي أن جماعات الفيس بوك والقوائم البريدية وأفلام يوتيوب والحملات العفوية والمنظمة وغيرها من الفعاليات السياسية المصرية علي الشبكة لا تزال أنشطة نخبوية محدودة العدد لا تجذب الجمهور العام من المستخدمين مثلما هو الحال في الحياة السياسية خارج الإنترنت‏.‏‏
*‏ يبدو وضع مصر كدولة سيئا بشكل عام من حيث كم ونوعية عمليات البحث المنطلقة منها مقارنة بالدول العربية‏,‏ فعلي الرغم من أنها الأكثر سكانا بين العرب ولا تكف عن التشدق بنشر خدمات الإنترنت علي نطاق واسع وبالمجان فقد تقهقرت وجاءت خلف العديد من الدول العربية‏,‏ فعند استخدام كلمات البحث المفتاحية العربية احتلت المركز الثامن بقوائم البحث في مجالي السياسة والعلوم والسابع بقائمة البحث في مجال الاقتصاد والخامس بقائمة البحث في مجالات الدين والرياضة والجنس‏,‏ وعند استخدام الكلمات المفتاحية الإنجليزية لم تظهر ضمن قوائم أكبر الدول بحثا في أي مجال‏,‏ وظهرت فقط في قائمة الجنس واحتلت فيها المركز الثالث‏,‏ وهذا معناه أن المصريين بشكل عام ـ وباستثناء الجنس ـ ليسوا الأنشط بين العرب في البحث علي الإنترنت علي الرغم من كونهم يناهزون الـ‏80‏ مليونا ومن يستخدمون الإنترنت منهم يقال أنه تجاوز العشرة ملايين شخص‏,‏ وهذه نتائج تثير التساؤل حول أوضاع الإنترنت في مصر‏,‏ وهل هي موجودة ولا تستخدم أم أن الناس ليسوا علي وعي بما يمكنهم الاستفادة به من ورائها؟‏
*‏ يدل توزيع الثقل النسبي لعمليات البحث المنطلقة من مصر جغرافيا علي وجود فجوة واضحة بين إقليم القاهرة الكبري والإسكندرية وباقي المدن والمحافظات المصرية‏,‏ إذ بدا من النتائج أن هذا الإقليم يحتكر الغالبية الساحقة من عمليات البحث المصرية علي الإنترنت‏,‏ وهذا في حد ذاته مؤشر علي استمرار وجود خلل خطير في مستويات الانتشار الجغرافي للإنترنت والوعي بها وباستخداماتها وما يمكن ان يتم البحث عنه من خلالها‏,‏ وهذا بالطبع له أسباب متعددة في مقدمتها أن هناك فجوة واضحة وخطأ مستمر في توزيع الموارد والاستثمارات ينجم عنه توجيه معظمها لصالح هذا الإقليم علي حساب باقي مدن ومحافظات الجمهورية‏,‏ مما يفرض علي وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وغيرها من الجهات المعنية إعادة النظر في هذا الوضع المختل‏.‏
السؤال الآن‏:‏ إلي متي سيظل المصريون والعرب يركزون علي التفتيش في قمامة الإنترنت أكثر من التنقيب في كنوزها؟ وإلي أي مدي سيستمر هذا السلوك كنمط حاكم لاتجاهات البحث لديهم علي الإنترنت؟ وفي ضوء النتائج السابقة أقول لمن يبحث عن الإجابة إن الإنترنت مرآة عاكسة لما يجري في مجتمعها‏,‏ ففتش عن الاحتكار السياسي الاقتصادي‏,‏ وعن المعلومات المعتقلة والتسفيه المتعمد والسطحية الفجة وانسداد الأفق أمام الملايين‏,‏ وحينما يخف التسلط وتهب رياح الحرية والعدالة وينتقل الملايين من هامش التنمية إلي قلبها ويوجد حلم يولد أملا في المستقبل سيتغير الموقف ويصبح التنقيب في كنوز العلم والاقتصاد والعقيدة والسياسة علي الشبكة سابقا علي التفتيش في مقالب قمامة الإنترنت دون الحاجة لرقابة أو توجيه‏.‏
الأهرام ، 19/8/2008

ليست هناك تعليقات: