كسولة وكبسولة
اقتحمَت اللغةَ، أو بالأحرى اللغاتِ جميعًا، كلمةٌ متعددة المدلول، غير صحيحة الاستخدام. أصبحنا نقول، في لغتنا اليومية، «ثقافة الجهل». ونعني أن الجهل لا ثقافة له. ونقول «ثقافة التوحش» ونعني أسوأ معاني التوحش. ونقول «ثقافة الغِنى» ونعني تجاهل الأغنياء للفقراء.
تنبهنا فإذا بناء نستخدم كلمة «ثقافة» كسابقة تعني كل شيء إلى ما تعنيه في الأصل. طبعا نقلنا الصيغة الخطأ عن اللغات الأخرى، لأن الصحافة تميل، بطبيعتها، إلى سهولتين: التقليد، والتمنع عن البحث. لكن ما الضرر، إذا كان الخطأ يبسط القدرة إلى الفهم؟ وأين الخطأ إذا كان استخدام كلمة واحدة يغني عن شرح مستطيل، ولو صحيحا؟
الضرر هو في التراكم. التسامح بخطأ بسيط يؤدي إلى أن نستخدم مع الوقت، لغة مؤلفة من مجموعة من الأخطاء. ويحدث ذلك بسبب غلوهم أيضا. فهم إما يتغافلون عما يشيع من أخطاء، بحيث تتحول إلى لغة أخرى يصعب تغييرها، وإما يطرحون كبدائل تعابير، ربما كانت من صلب اللغة، لكنها تنتمي إلى زمن لم يعد مألوفا.
عندما نقول «الثقافة الصحافية» نعني، في كل العالم، المعرفة السريعة، والاقتضاب، وعدم التعمق، والعلم القابل للخطأ أو للنقاش. فنحن نعيش في عصر لم يعد أحد فيه يكتب - أو يقرأ - الملاحم. ولا المطولات. ولا الروايات الكبرى. وأول مع يوصي به الناشرون اليوم «حول العالم»: اختصر. حاول ألا تزيد الرواية على 250 صفحة. الحجم المثالي 200 صفحة، لكي تسهل قراءتها على الطائرة أو في الباص أو في القطار.
عندما وضع تولستوي «الحرب والسلام» لم تكن الناس تقرأ في القطارات والطائرات. كانت تقرأ في الردهة أو على الشرفة، حيث لم يكن شيء آخر سوى القراءة. وكانت تقرأ في الحدائق. وكانت الناس تتأثر بما تقرأ وتفرح وتحزن وتبكي وتتشارك الأحزان. وكانت تحب الفرسان وتنتصر لهم وتصفق. وكانت تشعر بضرورة الانتقام للمظلومين والضعفاء. وهذا كله عصر مضى. لقد دفعتنا إيقاعات الحياة إلى ثقافة السرعة. وثقافة الركض. وثقافة النَّحل. من كل زهرة ذرّة. ولم تعد القراءة طقسا بل محطة مثل محطات الباص. والسرعة تولّد التسرع. لم يعد هناك مكان حقيقي للفكر والتأمل. لذلك وصلنا إلى مثل هذه الثقافة. كلمة كسولة واحدة صارت كبسولة لكل المشاعر والمعارف والأشياء.
سمير عطا الله ، الشرق الأوسط ، 14/2/2010
اقتحمَت اللغةَ، أو بالأحرى اللغاتِ جميعًا، كلمةٌ متعددة المدلول، غير صحيحة الاستخدام. أصبحنا نقول، في لغتنا اليومية، «ثقافة الجهل». ونعني أن الجهل لا ثقافة له. ونقول «ثقافة التوحش» ونعني أسوأ معاني التوحش. ونقول «ثقافة الغِنى» ونعني تجاهل الأغنياء للفقراء.
تنبهنا فإذا بناء نستخدم كلمة «ثقافة» كسابقة تعني كل شيء إلى ما تعنيه في الأصل. طبعا نقلنا الصيغة الخطأ عن اللغات الأخرى، لأن الصحافة تميل، بطبيعتها، إلى سهولتين: التقليد، والتمنع عن البحث. لكن ما الضرر، إذا كان الخطأ يبسط القدرة إلى الفهم؟ وأين الخطأ إذا كان استخدام كلمة واحدة يغني عن شرح مستطيل، ولو صحيحا؟
الضرر هو في التراكم. التسامح بخطأ بسيط يؤدي إلى أن نستخدم مع الوقت، لغة مؤلفة من مجموعة من الأخطاء. ويحدث ذلك بسبب غلوهم أيضا. فهم إما يتغافلون عما يشيع من أخطاء، بحيث تتحول إلى لغة أخرى يصعب تغييرها، وإما يطرحون كبدائل تعابير، ربما كانت من صلب اللغة، لكنها تنتمي إلى زمن لم يعد مألوفا.
عندما نقول «الثقافة الصحافية» نعني، في كل العالم، المعرفة السريعة، والاقتضاب، وعدم التعمق، والعلم القابل للخطأ أو للنقاش. فنحن نعيش في عصر لم يعد أحد فيه يكتب - أو يقرأ - الملاحم. ولا المطولات. ولا الروايات الكبرى. وأول مع يوصي به الناشرون اليوم «حول العالم»: اختصر. حاول ألا تزيد الرواية على 250 صفحة. الحجم المثالي 200 صفحة، لكي تسهل قراءتها على الطائرة أو في الباص أو في القطار.
عندما وضع تولستوي «الحرب والسلام» لم تكن الناس تقرأ في القطارات والطائرات. كانت تقرأ في الردهة أو على الشرفة، حيث لم يكن شيء آخر سوى القراءة. وكانت تقرأ في الحدائق. وكانت الناس تتأثر بما تقرأ وتفرح وتحزن وتبكي وتتشارك الأحزان. وكانت تحب الفرسان وتنتصر لهم وتصفق. وكانت تشعر بضرورة الانتقام للمظلومين والضعفاء. وهذا كله عصر مضى. لقد دفعتنا إيقاعات الحياة إلى ثقافة السرعة. وثقافة الركض. وثقافة النَّحل. من كل زهرة ذرّة. ولم تعد القراءة طقسا بل محطة مثل محطات الباص. والسرعة تولّد التسرع. لم يعد هناك مكان حقيقي للفكر والتأمل. لذلك وصلنا إلى مثل هذه الثقافة. كلمة كسولة واحدة صارت كبسولة لكل المشاعر والمعارف والأشياء.
سمير عطا الله ، الشرق الأوسط ، 14/2/2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق