فوضى الإنترنت العارمة لم تبدأ بعد
في أحد أهم كتبه عن تحديات الادارة في القرن الواحد والعشرين قال المفكر المشهور بيتر دراكر: "بعد عدة مئات من السنين، عندما يكتب المؤرخون عن عصرنا الحالي، على الارجح أن أهم ما سوف يلحظوه ليس التكنولوجيا ولا الانترنت ولا التجارة الالكترونية إنما التغير الجذري والغير مسبوق في السلوك الانساني، لأول مرة في تاريخ البشرية يوجد أعداد كبيرة ومتزايدة من البشر يمتلكون مجموعة واسعة من الخيارات ويقفون أمام تحدي إدارة أنفسهم بأنفسهم والمجتمعات ليست مؤهلة لذلك بعد !"
وفي يومنا هذا وبعد عدة سنوات وليس عدة مئات من السنوات كما توقع السيد دراكر نرى أنفسنا ومجتمعاتنا امام مجموعة هائلة من الخيارات السياسية والاعلامية والثقافية ولا تستطيع جهة واحدة سواءً كانت حكومة أو وسيلة إعلام او منظمة لا تستطيع لوحدها أن تقود الجمهور المتنامي الذكاء والمعرفة، ببساطة لقد بدأ ذلك الجمهور يتعرف أكثر الى خياراته المتوفرة فلا يجد نفسه مجبراً أن يستمع إلى أخبار وتقارير قناة معينة لأن الانتقال الى أخرى بالنسبة اليه هو مجرد كبسة زر ولا يجد ذلك الجمهور والمواطن العادي نفسه ملزماً بالانتماء الجغرافي لمنظمة ما أو لوطن أو لجماعة فمن الممكن أن ينتمي الى أحد الآف المنظمات أو التجمعات أو الشبكات الالكترونية التي تحيا في الانترنت وتنشر فكرها فيها وتمارس طقوسها الخاصة عبر طيفها وتعطي لمنتسبيها الشعور بالانتماء ويقابلونها بالولاء حتى أضحت في كثير من الاحيان قوة الولاء للوطن الافتراضي أقوى من قوة الولاء للوطن الجغرافي. وما زالت تلك التوجهات البشرية في مقتبل عمرها خصوصاً وأن جيل الشباب اليوم قد تعلم أدوات وتقنيات الانترنت في مرحلة متقدمة من عمره بينما سوف يولد الجيل القادم بين الشبكات الالكترونية الاجتماعية وسوف يبني علاقاته الالكترونية منذ نعومة أظفاره.
لقد سمعنا مراراً أن الذي حصل من ثورات عربية كان يحركه الفايسبوك والتويتر وغيرها من الادوات ولكن الواقع أن الذي حرك تلك الثورات في البداية هي مجموعة الخيارات الثقافية والاعلامية والعقائدية التي تمتع بها أولئك الشباب الثائر في مختلف الدول العربية والتي لم تستطع حكوماتهم في ثورة الانترنت والاتصالات والفضائيات أن تجد لها مكاناً نظراً للبيروقراطية القاتلة التي تتمتع بها، فكانت الحكومات ما تزال تعتقد أن أجهزة إعلامها وقنواتها التلفزيونية وصحفها تؤثر في الجمهور بينما كان ذلك الجمهور ينتقل ببساطة وسلاسة الى مصادر أخرى للمعلومات بل أكثر من ذلك لقد أصبح ذلك الجمهور في كثير من الاحيان هو مصدر المعلومات يصنعها بنفسه وينشرها عبر شبكاته الالكترونية الاجتماعية بطريقة فيروسية تتفشى بين الافراد بسرعة البرق يتفاعلون معها ويضيفون اليها ثم ينقلونها بدورهم الى شبكات أخرى.
لم تدرك الحكومات أنها على الانترنت ليست قوية كما تعتقد ولا تساعدها الترسانات العسكرية التقليدية ووسائل القمع المستوردة من الدول الغربية بل هي ضعيفة أمام ترسانة العقل البشري وآلاف النشطاء الذين يعرفون كيف يشنون الحرب الالكترونية والمعلوماتية على حكوماتهم وينتقلون من مرحلة الانترنت من أجل تلقي الخبر أو المعلومة الى مرحلة صنع الخبر والمعلومة وفي النهاية الى مرحلة الانترنت التنظيم التي تدار عبرها التجمعات والتظاهرات وتطلق من خلالها الشعارات. وكيف تستطيع أية حكومة أن تحارب تنظيماً افتراضياً ينتشر افراده عبر دول العالم ومن الممكن أن يقود حركة تجمع شعبية فعلية على الارض !
تبدل موازين القوى الاعلامية
على صعيد آخر، لقد أضحى الاعلام الالكتروني من وجهة نظر غير تقنية إعلام الشعوب والناس حيث احدثت الانترنت ووسائل الاتصالات الحديثة اختراقاً على مستوى توفر البث والنشر بطريقة رخيصة جدا مما أدى الى انتقال جزء كبير من القوة الاعلامية من أيدي المؤسسات العملاقة الى ايدي المدونين ونشطاء الانترنت.
وبدانا نشهد تحولاً جذرياً من مفهوم الاعلام المؤثر بصورة مطلقة بالجمهور والمتحكم بالمحتوى الاعلامي بطريقة مركزية الى الاعلام الذي يتأثر بالجمهور وينقل عنه وينتظر مشاركاته وتعليقاته وآراءه والذي حدث مؤخراً في جورجيا وايران وتونس ومصر ويحدث الآن في ليبيا هو أكبر دليل على ذلك حيث تعتمد كبرى المؤسسات الاعلامية مثل الجزيرة والعربية ووكالات الأنباء العالمية على مشاركات المدونين والصور الفوتوغرافية والفيديو الملتقط عبر كاميرات الخليوي بالرغم من عدم احترافية المصور ووجودة الفيديو في كثير من الاحيان.
وتلعب الشبكات الاجتماعية الالكترونية ومواقع التدوين الالكتروني والبث الفيديوي المجاني على الانترنت دوراً مركزياً في دعم مفاهيم وآليات الاعلام الالكتروني حيث تؤمن تلك الأدوات للمواطن والمؤسسات على حد سواء إمكانيات هائلة في التواصل والاتصال بين الافراد ومجموعات الافراد اذا تم استغلالها بالطريقة المناسبة فإنها تؤدي الى بالتأكيد إلى التأثير بطريقة حقيقية في الرأي العام.
ويتميز الاعلام الالكتروني عن الاعلام التقليدي بميزة تشبه العدوى الفيروسية حيث تنتقل المعلومة او الخبر من فرد الى مجموعته في الشبكة الالكترونية ومن أفراد الشبكة الالكترونية الواحدة الى شبكات الكترونية متعددة وصولاً الى فئات ومجموعات خارجية تشترك مع غيرها في نظرتها للأمور. إننا بكل بساطة نعيش عالمية الإعلام حيث من الممكن ان يتأثر الجمهور الغربي بفكرة عربية أو الجمهور العربية بأفكار وأحداث غربية ويتبع ذلك التعاطف والدعم وما الى ذلك.
المحتوى والمعلومات أولاً
صحيح أن الاعلام الالكتروني يعتمد على الادوات الالكترونية من قبيل مواقع الانترنت والشبكات والهواتف ووسائل الاتصال الحديثة ولكن الذي يأتي في المقام الأول هو المحتوى ومن هنا نفهم كيف ان مواقعاً مثل تويتر ويوتيوب نجحت بطريقة مذهلة حيث اعتمدت على المحتوى الاعلامي والاخباري المنتج من قبل ملايين من الناس حول العالم وباللغات المحلية والاجنبية. لقد أصبح المواطن العادي الذي يستخدم الانترنت لنشر خبر عن تطورات أمنية أو تجمع او مظاهرة أو بث مقاطع الفيديو المنتجة بطريقة رخيصة جدا الشريك الاساسي لنجاحات تلك المؤسسات الاعلامية الالكترونية العملاقة ويتميز الاعلام الشعبي الالكتروني بأنه يخاطب الناس بالوقائع من دون الاضافات والتحليلات والاستنتاجات ولذلك انتشر وتغلغل عبر ملايين البشر. إذن المحتوى الاعلامي والصورة والفيديو كانا عامل النجاح في الاعلام التقليدي وما زالا عامل النجاح في الاعلام الالكتروني مع فارق أن الاعلام الالكتروني يؤمن وسائل وأدوات إنتاج للمحتوى مجانية ومتوفرة وسهلة الاستخدام وهو ما ادى الى انفجار معلوماتي حيث نرى أن الفيديو المنشور على يوتيوب يحتاج الى ما يقارب 1700 سنة من أجل مشاهدته ويتم تحميل 24 ساعة من الفيديو على الموقع كل دقيقة. أما موقع تويتر الذي يتم استخدامه من أجل بث الاخبار والتطورات القصيرة جدا (140 حرف) فقط أعلن عام 2010 عن تجاوز عدد مستخدميه 110 مليون مستخدم حول العالم.
مناعة الاعلام الالكتروني
لقد برهنت التطورات التي تجري مؤخراً في مصر أن الاعلام الالكتروني أكثر مناعةً ضد الاغلاق والإسكات من الاعلام التقليدي حيث تم إغلاق بث قناة الجزيرة على سبيل المثال في عدد من الاقمار الصناعية بقرارات سياسية مما أدى حسب تصريح رسمي لموقع الجزيرة نت بتاريخ 4 فبراير 2011 الى قفزة غير مسبوقة مطلقاً في عدد زاور الموقع الذين زادوا بما يقارب 2500 % عن عدد الزوار قبل أحداث مصر مما دفع موقع الجزيرة صعوداً في ترتيب شركة اليكسا العالمية الى المرتبة 584 على مستوى المواقع الأكثر شهرة في العالم.
وصحيح أن الاجهزة الحكومية في مصر بدأت بمحاربة الاعلام الالكتروني عبر إغلاق مواقع الشبكات الاجتماعية وموقع تويتر ولكن المدونين كانوا قد تعلموا الدروس من تجربة ايران وتونس فعمدوا الى مواقع البروكسي من أجل الولوج بطريقة خفية الى فايسبوك وتويتر مما دفع بالحكومة مباشرة الى اغلاق خدمة الانترنت بالكامل على الاراضي المصرية ما عدا بعض وسائل إعلام الحكومة. وبالرغم من ذلك لم تستطع الحكومة محاربة الاعلام الالكتروني فقد أمنت شركة غوغل العملاقة بالتعاون مع تويتر خدمة حديثة جدا وهي الاتصال على أرقام هواتف عادية والحديث عن تطورات المظاهرات ثم يقوم النظام الآلي بتحويل تلك المكالمات الى نصوص يتم بثها أوتوماتيكياً على موقع تويتر.
لا شك أن يوجد العديد من الجهات تحاول إيجاد الطرق المناسبة للتعامل مع الاعلام الالكتروني ووقفه أثناء الازمات ولكن في الوقت نفسه هناك العديد من الجهات أيضاً تعمل على تأمين مناعة قصوى لأدوات ووسائل ذلك الاعلام وتطويره وجعله منيعاً ضد الاختراق أو الايقاف وعلينا نحن الشعوب العربية التمكن من تلك الادوات واستخدامها لصالحنا.
الانترنت الى الفوضى؟
من حسنات الانترنت وشبكاتها الاجتماعية أنها شجعت الكثير من الشباب العربي على التواصل وطرح افكارهم من دون رقيب ووصلت الى تحرير العديد من الشعوب العربية من الطغيان ولكن أين سوف تتوقف الانترنت عن التحريك؟ وبالرغم من انني من دعاة الانترنت والذين كتبوا عنها الكثير وبالرغم من كل الايجابيات التي حدثت وتحدث الان عبر وسائل الاتصال نحن لا نضمن أن لا تستمر الانترنت بتحريك الآف المجموعات الشبابية حتى بعد انتصار ثوراتهم المشروعة، لا بد من الوقوف مطولاً أمام القوة التنظيمية للإنترنت وشبكاتها الالكترونية ودراسة الآثار المتوقعة للفوضى العارمة التي من الممكن أن تقع في السنوات المقبلة عندما يتمكن معظم الناس من القوة المعلوماتية ويتدربون على أدواتها ويتسلحون بقوة الخيارات المتاحة أمامهم. من الذي ينظم الجماعات على الانترنت وما هي القوانين الاخلاقية التي تحكم تلك الجماعات حتى لا نصل الى فوضى في الولاء وفوضى في التعبير وفوضى في التجمعات ! الجواب على ذلك نجده عند تلك الجماعات الافتراضية التي يجب أن تسن لنفسها القوانين الافتراضية والتي تحفظ المجتمعات وتحميها من الانزلاق الى الفوضى المعلوماتية العارمة.
عباس بدران، موقع الحكومة الإلكترونية (بيروت)، 21/3/2011