مدونات العلماء العلمية
حققت المدونات في الآونة الأخيرة انتشارا وازديادا هائلا بصورة لافتة للنظر، خاصة في المجالات السياسية والإعلامية والثقافية، ووصل عددها على مستوى العالم حتى 12 مايو (أيار) الحالي وفقا للموقع الإلكتروني «نبض المدونة» (www.blogpulse.com) إلى أكثر من 161 مليون مدونة. وتعد المدونات وسيلة مهمة حاليا وبديلة عن وسائل الإعلام الخاضعة للرقابة، حيث تتخطى الحدود والحواجز، ويتخذها الأفراد متنفسا للتعبير عن آرائهم ومشكلاتهم وقضاياهم وممارسة النقد تجاه الكثير من الموضوعات والقضايا المجتمعية المهمة المطروحة. ويمكن للمدونات أن تسهم في تغطية الأحداث بتفاصيل دقيقة وبالصور في سرعة ومهنية صحافية عالية قد تنافس الكثير من وسائل الإعلام التقليدية.
والمدونة هي تعريب لكلمة «بلوغ» (Blog) الإنجليزية، المشتقة من «Web Log»، وتعني الدخول على الشبكة، وحرفيا سجلات الشبكة، ويقصد بها يوميات إلكترونية، وقد وضعه هذا المصطلح الأميركي جون بارغر في ديسمبر (كانون الأول) عام 1997، ثم أدمجت الكلمتان فأصبحتا (weblog)، التي اختصرت إلى مصطلح (Blog)، الذي وضعه بيتر ميرهولز في عام 1999. ويسمى صاحب المدونة مدونا، والجمع مدونون «البلوغرز» (Bloggers)، والكتابة في المدونة تسمى تدوين (Blogging). والمدونة نوع أو جزء من المواقع الإلكترونية على الإنترنت، الخاصة بالأفراد أو المؤسسات، وتتضمن الكثير من الأخبار والتعليقات على موضوعات معينة، وقد تكون بمثابة يوميات شخصية. وتمتاز المدونات عن المواقع العادية بقدرة القراء على وضع تعليقاتهم بصورة تفاعلية، كما توفر سجلا أرشيفيا للموضوعات المتاحة بها، تكون مرتبة زمنيا حسب حداثتها، ومن السهل الوصول إليها، كما تسمح المدونة بخلق صفحات ومعلومات جديدة تضاف إليها بسهولة. والمدونات النموذجية تجمع بين النصوص والصور والصوت (بودكاست) ومقاطع الفيديو وروابط مدونات وصفحات ويب أخرى ذات صلة بالموضوعات المطروحة على المدونة.
وقد شهد عالمنا العربي في السنوات الأخيرة انتشارا ملحوظا للمدونات، ووصل عددها إلى الآلاف، وتشتمل غالبيتها على مدونات أدبية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية ورياضية. لكن الملاحظ أن مدونات العلوم والتقنية عموما قليلة للغاية، مع غياب المدونات العلمية للعلماء العرب، التي تتناول بالصوت والصورة والفيديو أعمالهم وإنجازاتهم من أبحاث ودراسات وكتب وندوات ومؤتمرات ومحاضرات وجوائز، وتتضمن سجلا أرشيفيا لأخبار وموضوعات واتجاهات العلوم الحالية والمستقبلية، ويمكن أن تسهم وتشجع على نشر العلوم والاهتمام بها ودراستها وفهمها وبخاصة لدى أجيالنا الناشئة والطلاب وعامة الجمهور.
في الدول المتقدمة التي تهتم دائما بالعلوم وأساليب نشرها والاهتمام بها على أوسع نطاق، نجد أن مدونات العلوم، خصوصا مدونات العلماء، تعد من القضايا العلمية المهمة التي تحظى باهتمام متزايد، وتتناولها الكثير من المؤتمرات التي تتناول اتجاهات وأساليب نشر العلوم على شبكة الإنترنت، حيث تعد المدونات الآن من أساليب التربية العلمية الحديثة التي تسهم في نشر وتعليم العلوم وزيادة الإقبال على دراستها وفهمها. وتشتمل مدونات العلماء على نصوص وصور وملفات صوتية (بودكاست) ومقاطع فيديو، تتضمن أحدث أخبار واتجاهات ودراسات وأبحاث وكتب ومجلات العلوم والتكنولوجيا العالمية، وروابط لمواقع ومدونات علمية أخرى ذات صلة بموضوعات وقضايا العلوم المطروحة بالمدونة. كما تتضمن مدونات العلماء سجلات بإنجازاتهم وأعمالهم من دراسات وأبحاث وكتب ومحاضرات وجوائز وندوات ولقاءات وبرامج تلفزيونية، مصحوبة بفيديوهات علمية لهم ولغيرهم من العلماء تكون ذات صلة بالنصوص والموضوعات العلمية المعروضة بالمدونات، ويعرض العلماء في مدوناتهم لتجاربهم وخبراتهم العلمية والعملية التي يمكن أن يستفيد منها الطلاب والباحثون والمشتغلون بالعلم. ويستطيع القراء إثراء هذه المدونات بالحوار والنقاش والتفاعل مع هؤلاء العلماء بوضع تعليقاتهم وأسئلتهم حول الموضوعات والقضايا المطروحة.
على سبيل المثال، تعد مدونة عالم الفيزياء النظرية الأميركي ميتشيو كاكو، نموذجا رائدا لمدونات العلماء العلمية، على الموقعين «http://mkaku.org»، و«http://bigthink.com/blogs/dr-kakus-universe»، حيث تتضمن أبحاثه ومقالاته ومحاضراته ومنشوراته وملفات صوتية لبرامجه الإذاعية ومقاطع فيديو، وروابط لصفحات ويب أخرى ذات صلة. ويعد البروفسور كاكو من أبرز علماء العالم في الفيزياء النظرية، حيث يعمل أستاذ كرسي هنري سيمات للفيزياء النظرية في جامعة مدينة نيويورك. وهو من المهتمين والمتابعين والمتأثرين بكتابات وأعمال الخيال العلمي، وشهير بتبسيطه للعلوم، حيث يعد متحدثا علميا بارعا، يحظى بالقبول والجاذبية والشعبية، ويحاول أن ينقل للمشاهد والمستمع إحساسه وتعجبه من اكتشافات وعجائب العلوم في الحاضر والمستقبل. وله الكثير من الكتب العلمية العالمية الأكثر مبيعا، منها كتاب «كيف سيغير العلم حياتنا في القرن الحادي والعشرين» عام 1998، وكتاب «فيزياء المستحيل» عام 2008، وحديثا كتاب «فيزياء المستقبل» الصادر في مارس (آذار) الماضي، كما أن له الكثير من البرامج والأفلام العلمية الجادة، منها برنامج «علم الخيال العلمي» على قناة العلوم الأميركية، وبرنامج علمي أسبوعي بالإذاعة لمدة ساعة يبث في جميع أنحاء أميركا، بعنوان «اكتشافات في العلم». كما يقدم برنامج «2057» على قناة «ديسكفري» الأميركية، كما قدم لقناة الـ«بي بي سي» البريطانية سلسلة علمية على مدى ثلاث حلقات بمعدل ساعة لكل حلقة، بعنوان «رؤى المستقبل»، تناولت أهم ثلاثة اتجاهات علمية عالمية وآفاقها الواعدة في الحاضر والمستقبل، وهي البيوتكنولوجي (التقنية الحيوية)، والنانوتكنولوجي (التقنيات متناهية الصغر)، والروبوتات والذكاء الصناعي، وقد تضمنت مشاهد مرئية ولقاءات علمية من داخل معامل ومراكز الأبحاث العلمية العالمية مع الكثير من أبرز علماء العالم في هذه الاتجاهات العلمية.
ومن بين مدونات العلماء الأخرى، مدونة عالم الذكاء الصناعي والمستقبليات، والمخترع الأميركي راي كيرزويل، مخترع آلة تحويل النصوص المكتوبة إلى كلمات مسموعة لمساعدة المكفوفين على القراءة، ومن مؤلفاته كتاب «عصر الآلات الروحية: عندما تتخطى الكمبيوترات الذكاء البشري» عام 1999، وموقع المدونة «www.kurzweilai.net».
وتتعدد المدونات العلمية للعلماء، فمنها ما يتناول علوما وموضوعات ومجالات علمية متعددة، ومدونات أخرى تكون متخصصة في علوم ومجالات وموضوعات وقضايا علمية بعينها، تمثل اتجاهات علمية عالمية حديثة ذات أهمية متزايدة، مثل علوم البيوتكنولوجي، والنانوتكنولوجي، والتغير المناخي، والاحتباس الحراري، والروبوتات والذكاء الصناعي، والخلايا الجذعية، والجينات، وأخلاقيات البيولوجيا أي المخاوف بشأن التأثيرات الاجتماعية والأخلاقية والثقافية والقانونية التي قد تترتب عن التطورات في العلوم البيولوجية، مثل الأبحاث حول الخلايا الجذعية والاستنساخ والتجارب الوراثية.
ومن بين مدونات العلوم العالمية ذات الشعبية والجماهيرية العالية، مدونة مجلة العلوم الأميركية، بعنوان «60 ثانية في العلم» وموقعها «www.scientificamerican.com/blog/60-second-science»، ومدونة مجلة «وايرد» الأميركية، وموقعها «http://blog.wired.com/wiredscience»، ومدونة مجلة «ديسكفري» وموقعها «http://blogs.discovermagazine.com»، ومدونة علماء المناخ عن التغير المناخي والاحتباس الحراري للعامة والصحافيين، وموقعها «www.realclimate.org»، ومدونة البيوتكنولوجي والجينوم والجينات، وموقعها «www.thinkgene.com»، ومدونة أخلاقيات البيولوجيا، وموقعها «http://blog.bioethics.net».
لقد أصبحت مدونات العلوم في العصر الحاضر نمطا جديدا ومهما في التوعية العلمية، وتبدد التوتر بشأنها، وأصبحت تسهم بدور كبير في نشر العلوم والاهتمام بها، حيث تسير جنبا إلى جنب بمحاذاة وسائل الإعلام التقليدية، وتستطيع منافستها والتفوق عليها، في جذب الجماهير وتفاعلها معها، بقوة وتميز محتواها وقدرة وكفاءة مدونيها.
لكن يبقى القول إن إعداد وتصميم مدونات علمية يختلف عن تصميم المدونات الأخرى، إذ يتطلب دروسا نظرية وتدريبات عملية، مع ضرورة وأهمية تحري الدقة والمهارة في اختيار النصوص والموضوعات العلمية والملفات الصوتية والفيديوهات العلمية، وتصميمها بصورة أنيقة ومميزة وجذابة، تجعل من الإقبال على دراسة العلوم وفهمها وتعلمها متعة وفائدة، وبخاصة أن العلوم والتكنولوجيا أصبحت ذات صلة وثيقة بحياتنا اليومية.
الشرق الأوسط ، 20/5/2001