تقول القصة إننا كنا نعيش ذات يوم فى مجتمع البث الإذاعى والتليفزيونى. فى ذلك العصر الغابر ما قبل الإنترنت، لم تكن أدوات التشارك فى المعلومات متاحة على نطاق واسع. فإذا كنت تريد أن تشارك أفكارك مع الجماهير، فينبغى أن تمتلك مطبعة أو نصيبا على موجات الأثير، أو تكون لك صلة بمن يمتلك أيهما.
وكانت نخبة من المحررين والمنتجين وأقطاب وسائل الإعلام تسيطر على تدفق المعلومات، وتقرر ما يراه الناس حول العالم ويسمعونه. فقد كانوا حراس البوابات المتحكمين فى المعرفة.
ثم جاءت شبكة الإنترنت، التى جعلت التواصل مع الملايين أمرا ممكنا بتكلفة ضئيلة أو من دون تكلفة، حيث يمكن لأى شخص عبر الاتصال بالإنترنت تبادل الأفكار فورا مع العالم الأجمع. وهكذا، بزغ فجر حقبة جديدة من ديمقراطية وسائل الإعلام. وربما تكون قد سمعت هذه القصة من قبل ــ لعل ذلك من جلين رينولدز المدون المحافظ عندما كتب إن التدوين «القضاء على حراس البوابات» أو المدون التقدمى ماركوس موليتساس فى كتابه «تحطيم البوابة».
وقد وصفتها باعتبارى ممارسا للسياسة على الإنترنت منذ وقت مبكر بأنها قصة جميلة عن السلطة الثورية للوسائط. لكننى أقتنع على نحو متزايد بأننا توصلنا إلى النتيجة الخاطئة.. وربما هى خاطئة على نحو خطير. فهناك مجموعة من الحراس المتحكمين فى المدينة، وهم هذه المرة ليسوا أشخاصا، وإنما الشفرة.
ويرى عمالقة الإنترنت ــ جوجل، وفيس بوك، وياهوو، ومايكروسوفت ــ الزيادة الملحوظة فى المعلومات المتاحة باعتبارها فرصة. فإذا كان بإمكانهم إمدادنا بالخدمات والبيانات الدقيقة وتزويدنا بالنتائج الأكثر جاذبية وارتباطا باحتياجاتنا، سوف يحصلون على معظم المستخدمين ومعظم الإعلانات. ونتيجة لذلك، فهم يتسابقون لتقديم برامج الحجب الشخصية التى تعرض لنا الإنترنت الذى يعتقدون بأننا نريد أن نراه. وهذه البرامج، فعليا، تتحكم فى المعلومات التى تصل إلى شاشاتنا وتحد منها.
وقد اعتدنا الآن على الإعلانات التى تلاحقنا على الإنترنت، بناء على نقراتنا الأخيرة، لتدخلنا إلى المواقع التجارية. ولكن، على نحو متزايد، وغير مرئى تقريبا، فقد تم إضفاء الصفة الشخصية على دخولنا إلى المعلومات. فربما يحصل شخصان يسعى كل منهما للبحث على جوجل عن كلمة «مصر» على نتائج مختلفة إلى حد كبير، بناء على عمليات بحث كل منهما أخيرا.
ويجرى كل من موقع ياهوو الإخبارى وجوجل الإخبارى تعديلات على صفحتيهما الرئيسيتين وفقا لكل زائر على حدة. وفى الشهر الماضى فحسب، بدأت هذه التكنولوجيا تعرف طريقها إلى مواقع صحفية على الشبكة، مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز.
وهذا كله لا يعتبر ضارا، عندما يتم فرز المنتجات الاستهلاكية داخل وخارج عالمك الشخصى. ولكن عندما لا يؤثر التخصيص الشخصى على ما تشتريه فحسب، ولكن ما تعتقده، تنشأ قضايا مختلفة. حيث تعتمد الديمقراطية على قدرة المواطن على التعامل مع رؤى متعددة، وتحد شبكة الإنترنت من هذا التعامل، عندما لا تقدم سوى المعلومات التى تعكس رؤيتك القائمة بالفعل. وبينما يكون مناسبا أحيانا أن ترى ما تريد أن تراه فحسب، فمن المهم فى أحيان أخرى أن ترى أشياء لم تكن تريدها.
وصار للمهندسين الذين يكتبون شفرة التحكم الجديدة سلطة هائلة فى تحديد ما نعرفه عن العالم، مثلما كان للمتحكمين القدامى. ولكن خلافا لأفضل المتحكمين القدامى، فهم لا يرون أنفسهم أمناء على ثقة الجمهور. فليس هناك معادل لأخلاقيات مهنة الصحافة، فذات مرة قال مارك زوكبيرج المدير التنفيذى بموقع فيس بوك لزملائه: «ربما كان السنجاب الذى يموت فى الفناء الأمامى لبيتك أكثر صلة بمصالحك الخاصة من الناس الذين يموتون فى أفريقيا». وفى فيس بوك، يكاد يكون «الصلة» هى المعيار الوحيد لتحديد ما يراه المستخدمون.
والتركيز على الأخبار الأكثر صلة ــ السنجاب ــ سياسة تجارية كبيرة. لكنها تتركنا نحدق فى الفناء الأمامى، بدلا من أن نقرأ عن الإبادة الجماعية والمعاناة والثورة.
وليست هناك عودة إلى نظام المتحكمين القدامى، ولا ينبغى أن نعود للوراء. ولكن إذا كانت الحسابات سوف تسيطر على وظيفة تحرير وتقرير ما نراه، فنحن نريد التأكد من أنها سوف تحسب وزنا لمتنوعات تتجاوز معيار «الصلة» الضيق. حيث ينبغى أن تطلعنا على أفغانستان وليبيا كما تطلعنا على شركتى آبل وكينى. ويتعين على الشركات التى تستفيد من هذه الحسابات أخذ مسئولياتها فى المعالجة على نحو أكثر جدية عما تفعله حتى الآن. عليها أن تمنحنا سيطرة على ما نشاهد ــ وتوضيح الأمر عندما تكون المعلومات مشخصنة، والسماح لنا بأن نشكل ونضبط الفلاتر الخاصة بنا. فنحن ــ المواطنين ــ نحتاج إلى أن نتحكم فى غاياتنا أيضا ــ وتطوير «محو أمية الفلاتر» المطلوبة لاستخدام هذه الأدوات جيدا، وطلب المحتويات التى توسع من آفاقنا حتى عندما لا يكون ذلك مريحا.
لا شك أنه من مصلحتنا الجمعية ضمان أن شبكة الإنترنت تحقق ما نريده باعتبارها وسيطا للتلاحم الثورى. ولن يحدث ذلك إذا تم حصرنا جميعا فى إطار عوالمنا المشخصنة.
باريسيه إيلاي ، الشروق الجديد ، 29/5/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق