الكتاب ... مهـدّداً
هل كان يخطر في بال الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس عندما كتب قصته الشهيرة «كتاب الرمل» أنه يكتب عما يشبه «الكتاب الإلكتروني» الذي بدأ يزاحم الكتاب المطبوع في عصرنا الراهن؟ «كتاب الرمل» كما يصفه بورخيس لا تحصى صفحاته لأنها غير نهائية، إنه كتاب الكتب، الكتاب الهائل الذي لا يمكن إحراقه... أما «الكتاب الإلكتروني» فيمكنه أن يكون مكتبة بكاملها. تذكرت «كتاب» بورخيس ذاك، عندما قرأت أخيراً إعلاناً في إحدى المجلات الأدبية الفرنسية عن كتاب إلكتروني من المرتقب أن يصدر وعنوانه التقني: «160 كتاباً في غلاف واحد»، وقد أطلقته شركة «سوني» في سلسلة «ريدر» وهي كلمة إنكليزية تعني «القارئ». الكتاب هذا يماثل «كتاب الرمل» في كونه «كتاب كتب» أو «مكتبة محمولة» كما يقول الإعلان، يمكن صاحبها أن يحملها معه حيثما كان، في القطار أم في الطائرة أم في المقهى... أما الطريف فهو نشر الإعلان بالقرب من مقالة عن إقدام دور نشر فرنسية على جمع مخطوطات الأدباء وإصدارها في كتب (ورقية) بغية إنقاذها من «وعيد» العصر الإلكتروني وتقديمها للقراء كي يتسنى لهم الاطلاع على كتب طالما أحبّوها، في مسوّداتها الأولى وبخط أصحابها.لا أدري إن كانت مجرد مصادفة أن يلتقي الإعلان والمقال هذان في صفحة واحدة، فهما على اختلاف جوهري، بل إن الواحد نقيض الآخر: إعلان عن كتاب ينتمي الى «روح» العصر الإلكتروني ومقال عن مسوّدات ستزول نهائياً خلال فترة غير بعيدة، بعد أن يسقط القلم والدفتر والأوراق البيض في هاوية الذاكرة. وليس من المبالغة القول إن الكتاب الإلكتروني المعلن عنه يهدد علانية تلك «المسوّدات» التي أضحت من شؤون الماضي، لا سيما بعد أن عكف معظم الكتّاب في العالم على استخدام الكومبيوتر عوض القلم في كتابتهم.« المكتبة المحمولة» ليست بطارئة و «الكتاب الإلكتروني» ليس بجديد، وكان جهاز الإنترنت مهد لهما السبيل قبل بضعة أعوام، مبشراً العالم بما يسمى «نهاية» الكتاب المطبوع أو الورقي، وما أبشع هذه الصفة تطلق على الكتاب وكأن الورق بات من نوافل الحضارة البشرية. الكتاب الإلكتروني أضحى متوافراً حتى في عالمنا العربي لكنه سيتطوّر في الأيام المقبلة مثلما تطوّر في الغرب، وسيحلّ قريباً محل الكتاب المطبوع ولكن طبعاً من دون أن يلغيه. أصلاً يستحيل إلغاء هذا الكتاب نهائياً ولو بعد قرن أو قرنين وأكثر. هذا الكتاب الذي صنع الجزء الأكبر من تاريخ الحضارة لا يمكن أي قوة أن تزيله وسيظل في العالم أناس يؤثرونه على الشاشة التي ترهق العيون وتقتل حواس أخرى مثل اللمس والشمّ...صراحة لا أقدر - شخصياً - أن أقرأ كتاباً لا أشمّ ورقه ولا ألمس صفحاته بأصابعي. الشمّ واللمس هما من طقوس القراءة ومن وجوهها الكثيرة. لا أتصوّر نفسي أشمّ شاشة فضية أو ألامسها كما لو أنني أقلب صفحات كتاب. لا أتخيل نفسي أيضاً أقرأ بلا قلم أكتب به انطباعات على هامش الصفحة أو أزيّح به أسطراً أحبها لأعود إليها كلما فتحت الكتاب نفسه. ليست هذه النزعة رومنطيقية ولا ضرباً من ضروب الحنين المضطرم الى الماضي، بل هي نزوة داخلية تشبه القراءة التي ليست في الختام إلا نزوة. والقراءة التي أقصدها هي القراءة التي يشوبها «الإمتاع والمؤانسة» بحسب عبارة أبي حيان التوحيدي وليست القراءة العلمية الصرف الخالية من الحماسة والانفعال والحلم... ولا أخفي أن رائحة الورق هذه طرف في «لعبة» القراءة أو»عادة القراءة» التي تشبه التنفس كما يرى ألبرتو مانغويل ربيب المكتبات وخليلها. وجميعاً نذكر كتابه البديع «تاريخ القراءة» الذي يعدّ، على رغم طابعه التأريخي، من أجمل الأناشيد التي كتبت في القراءة.حصلتُ قبل فترة على «موسوعة الشعر العربي» التي كان أصدرها المجمّع الثقافي في أبو ظبي في صيغة إلكترونية، وحاولت أن أقرأ فيها ما يحلو لي أن أقرأه عادة على الورق، وعجزت، أجل عجزت. الحرف المضيء على الشاشة الفضية لم يُغرِني ولا الإخراج الهندسي للصفحات الإلكترونية ولا الطابع «العملي» الذي يسمها. فضّلت ألف مرّة أن أقرأ الشعراء الذين أحبهم على الورق الأصفر، بحروف سوداء قد تعتريها بضع أخطاء طباعية، هي بمثابة أحد أقدار الكتابة. هل أجمل من أن تفتح ديواناً بين يديك وتقلبه بأناملك فتعبق رائحته في أنفك ولو مصحوبة ببعض الغبار أحياناً؟ هل أجمل من أن تقف أمام مكتبتك لتختار ما يحسن لك أن تختار فتحمله الى طاولتك جاعلاً منه خير جليس؟لم يعد في مقدور أحد تجاهل الثورة التي أحدثتها الثقافة الإلكترونية في عصرنا، والكتاب الإلكتروني سيصبح واقعاً، شاء المعترضون أم أبوا. لكن الكتاب «المطبوع» الذي صنع أجمل وجوه التاريخ لن تستطيع أي ثورة أن تزيله من حياة أتباعه ومريديه. سيظل الكتاب المطبوع حاضراً مهما حاصرته التقنيات المعاصرة أو عزلته، ومهما جرّدته من مزاياه وجمالياته. وكم يصعب فعلاً تخيل المكتبات بلا كتب من ورق وبلا روائح غابرة وبلا «فئران» ولا «عثّ» ينخر الأوراق. كم يصعب تصوّر المكتبات الحديثة، ببرودها القاتل وجمالها المصطنع وروائحها البلاستيكية أو المعدنية.سينتصر الكتاب الإلكتروني على الكتاب الورقي بعد سنوات أو عقود، لكنه حتماً لن ينتصر على الذاكرة التي تشتعل حنيناً الى زمن ولّى مثل أزمنة كثيرة، الى غير رجعة!
عبده وازن ، الحياة، 15/12/2008
هل كان يخطر في بال الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس عندما كتب قصته الشهيرة «كتاب الرمل» أنه يكتب عما يشبه «الكتاب الإلكتروني» الذي بدأ يزاحم الكتاب المطبوع في عصرنا الراهن؟ «كتاب الرمل» كما يصفه بورخيس لا تحصى صفحاته لأنها غير نهائية، إنه كتاب الكتب، الكتاب الهائل الذي لا يمكن إحراقه... أما «الكتاب الإلكتروني» فيمكنه أن يكون مكتبة بكاملها. تذكرت «كتاب» بورخيس ذاك، عندما قرأت أخيراً إعلاناً في إحدى المجلات الأدبية الفرنسية عن كتاب إلكتروني من المرتقب أن يصدر وعنوانه التقني: «160 كتاباً في غلاف واحد»، وقد أطلقته شركة «سوني» في سلسلة «ريدر» وهي كلمة إنكليزية تعني «القارئ». الكتاب هذا يماثل «كتاب الرمل» في كونه «كتاب كتب» أو «مكتبة محمولة» كما يقول الإعلان، يمكن صاحبها أن يحملها معه حيثما كان، في القطار أم في الطائرة أم في المقهى... أما الطريف فهو نشر الإعلان بالقرب من مقالة عن إقدام دور نشر فرنسية على جمع مخطوطات الأدباء وإصدارها في كتب (ورقية) بغية إنقاذها من «وعيد» العصر الإلكتروني وتقديمها للقراء كي يتسنى لهم الاطلاع على كتب طالما أحبّوها، في مسوّداتها الأولى وبخط أصحابها.لا أدري إن كانت مجرد مصادفة أن يلتقي الإعلان والمقال هذان في صفحة واحدة، فهما على اختلاف جوهري، بل إن الواحد نقيض الآخر: إعلان عن كتاب ينتمي الى «روح» العصر الإلكتروني ومقال عن مسوّدات ستزول نهائياً خلال فترة غير بعيدة، بعد أن يسقط القلم والدفتر والأوراق البيض في هاوية الذاكرة. وليس من المبالغة القول إن الكتاب الإلكتروني المعلن عنه يهدد علانية تلك «المسوّدات» التي أضحت من شؤون الماضي، لا سيما بعد أن عكف معظم الكتّاب في العالم على استخدام الكومبيوتر عوض القلم في كتابتهم.« المكتبة المحمولة» ليست بطارئة و «الكتاب الإلكتروني» ليس بجديد، وكان جهاز الإنترنت مهد لهما السبيل قبل بضعة أعوام، مبشراً العالم بما يسمى «نهاية» الكتاب المطبوع أو الورقي، وما أبشع هذه الصفة تطلق على الكتاب وكأن الورق بات من نوافل الحضارة البشرية. الكتاب الإلكتروني أضحى متوافراً حتى في عالمنا العربي لكنه سيتطوّر في الأيام المقبلة مثلما تطوّر في الغرب، وسيحلّ قريباً محل الكتاب المطبوع ولكن طبعاً من دون أن يلغيه. أصلاً يستحيل إلغاء هذا الكتاب نهائياً ولو بعد قرن أو قرنين وأكثر. هذا الكتاب الذي صنع الجزء الأكبر من تاريخ الحضارة لا يمكن أي قوة أن تزيله وسيظل في العالم أناس يؤثرونه على الشاشة التي ترهق العيون وتقتل حواس أخرى مثل اللمس والشمّ...صراحة لا أقدر - شخصياً - أن أقرأ كتاباً لا أشمّ ورقه ولا ألمس صفحاته بأصابعي. الشمّ واللمس هما من طقوس القراءة ومن وجوهها الكثيرة. لا أتصوّر نفسي أشمّ شاشة فضية أو ألامسها كما لو أنني أقلب صفحات كتاب. لا أتخيل نفسي أيضاً أقرأ بلا قلم أكتب به انطباعات على هامش الصفحة أو أزيّح به أسطراً أحبها لأعود إليها كلما فتحت الكتاب نفسه. ليست هذه النزعة رومنطيقية ولا ضرباً من ضروب الحنين المضطرم الى الماضي، بل هي نزوة داخلية تشبه القراءة التي ليست في الختام إلا نزوة. والقراءة التي أقصدها هي القراءة التي يشوبها «الإمتاع والمؤانسة» بحسب عبارة أبي حيان التوحيدي وليست القراءة العلمية الصرف الخالية من الحماسة والانفعال والحلم... ولا أخفي أن رائحة الورق هذه طرف في «لعبة» القراءة أو»عادة القراءة» التي تشبه التنفس كما يرى ألبرتو مانغويل ربيب المكتبات وخليلها. وجميعاً نذكر كتابه البديع «تاريخ القراءة» الذي يعدّ، على رغم طابعه التأريخي، من أجمل الأناشيد التي كتبت في القراءة.حصلتُ قبل فترة على «موسوعة الشعر العربي» التي كان أصدرها المجمّع الثقافي في أبو ظبي في صيغة إلكترونية، وحاولت أن أقرأ فيها ما يحلو لي أن أقرأه عادة على الورق، وعجزت، أجل عجزت. الحرف المضيء على الشاشة الفضية لم يُغرِني ولا الإخراج الهندسي للصفحات الإلكترونية ولا الطابع «العملي» الذي يسمها. فضّلت ألف مرّة أن أقرأ الشعراء الذين أحبهم على الورق الأصفر، بحروف سوداء قد تعتريها بضع أخطاء طباعية، هي بمثابة أحد أقدار الكتابة. هل أجمل من أن تفتح ديواناً بين يديك وتقلبه بأناملك فتعبق رائحته في أنفك ولو مصحوبة ببعض الغبار أحياناً؟ هل أجمل من أن تقف أمام مكتبتك لتختار ما يحسن لك أن تختار فتحمله الى طاولتك جاعلاً منه خير جليس؟لم يعد في مقدور أحد تجاهل الثورة التي أحدثتها الثقافة الإلكترونية في عصرنا، والكتاب الإلكتروني سيصبح واقعاً، شاء المعترضون أم أبوا. لكن الكتاب «المطبوع» الذي صنع أجمل وجوه التاريخ لن تستطيع أي ثورة أن تزيله من حياة أتباعه ومريديه. سيظل الكتاب المطبوع حاضراً مهما حاصرته التقنيات المعاصرة أو عزلته، ومهما جرّدته من مزاياه وجمالياته. وكم يصعب فعلاً تخيل المكتبات بلا كتب من ورق وبلا روائح غابرة وبلا «فئران» ولا «عثّ» ينخر الأوراق. كم يصعب تصوّر المكتبات الحديثة، ببرودها القاتل وجمالها المصطنع وروائحها البلاستيكية أو المعدنية.سينتصر الكتاب الإلكتروني على الكتاب الورقي بعد سنوات أو عقود، لكنه حتماً لن ينتصر على الذاكرة التي تشتعل حنيناً الى زمن ولّى مثل أزمنة كثيرة، الى غير رجعة!
عبده وازن ، الحياة، 15/12/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق