الاستشراق ونهضتنا الحديثة في رؤية محمود شاكر
رأى محمود شاكر أن العالم العربي والإسلامي كان على أعتاب نهضة حقيقية جديدة على يد مجموعة من علماء المسلمين منذ منتصف القرن الحادي عشر الهجري قبل بن عبد الوهاب بقرن من الزمان فعصر النهضة في الفكر الإسلامي الحديث يبدأ مع منتصف القرن الحادي عشر الهجري إلى منتصف القرن الثاني عشر على أيدي مجموعة من أعلام هذه الأمة في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي، وفى مجالات مختلفة كذلك، منهم في مصر: عبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب المتوفى في عام 1093هـ / 1683م، والجبرتي الكبير المتوفى عام 1188هـ / 1774م ومرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس المتوفى عام 1205هـ / 1790م، وفي نجد: محمد بن عبدالوهاب توفى 1206هـ / 1792م، وفي اليمن: الشوكاني المتوفى عام 1250هـ / 1734م. هؤلاء العلماء وغيرهم سعوا بكل همة للعمل على إحياء علوم الأمة في اللغة والأدب وعلوم الدين وحتى العلوم العملية لكن الاستشراق باعتباره حامل هموم المسيحية الغربية وعيونها التي تتابع ما يحدث في ديار الإسلام حذر قادة الدول الغربية لتنقض على العالم الإسلامي فتحتله لتحول دون هذه النهضة الواعدة حتى تتعثر النهضة الإسلامية وتعجز عن بلوغ هدفها المنشود، فالمستشرقون، الذين لم يتوانوا لحظة عن متابعة ورصد كل صغيرة وكبيرة تحدث في دار الإسلام، رصدت تلك النهضة الإسلامية الفتية، وأرسلت تحذيراتها إلى ملوك الغرب، الذين داهموا العالم الإسلامي، بجيوشهم وأساطيلهم، في حملة صليبية رابعة طوقت العالم الإسلامي، من أقصاه إلى أقصاه.وكان العالم الإسلامي آنذاك ما زال في بداية نهضته، فبغت بالهجمة الصليبية الجديدة، ولم يقدر على التصدي لكل هذه الجيوش، التي كانت أقوى منه عدة وعددا فيوضح دور المستشرقين الذين كانوا يجوبون دار الإسلام من أطرافها إلى قلبها، في محاولة لغز الأحداث واستكشافها يلاقون الخاصة من العلماء، ويخالطون عامة المثقفين والدهماء لمعرفة أسرار الأمة الإسلامية وأخبارها وذلك بقلوب مملوءة بالحقد ونفوس مصممة على الثأر عازمة عليه، ولذا كانت عيونهم متيقظة وعقولهم منتبهة ولبلوغ هدفهم هذا لبسوا لجمهرة المسلمين كل زي، وتوغلوا يستخرجون كل مخبوء وذلك في الوقت الذي كانت بلادهم قريبة عهد بالنهضة واليقظة والإحياء فهم على أتم معرفة بأسرار اليقظة، كيف تبدأ، وإلى أين تنتهي، فأدركوا إدراكاً واضحاً، أن ما كان يجري في دار الإسلام منذ منتصف القرن الحادي عشر الهجري - السابع عشر الميلادي) إلى منتصف القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) إنما هو يقظة حقيقية، ونهضة كاملة، وإحياء صحيح، يقوموا على تجديد الفكر الإسلامي وهضمه وتطويره بعد أن طمسته الأيام والدهور. وهذا الفكر الإسلامي الذي يسعى أبناء الأمة إلى بعثه وتجديده هو ما اعتمدت عليه النهضة الأوروبية في يقظتها، من أجل هذا وجفت قلوب هؤلاء المستشرقين من هول ما هم مقبلون عليه، إذا تمت لدار الإسلام اليقظة واستوت وبلغت أشدها، واستقامت خطواتها على سنن الطريق.هؤلاء المستشرقون لهم صفات مختلفة، فتارة يظهرون في ثياب المبشرين الداعين إلى المسيحية، وتارة في زي التجار، وتارة في زي طالب علم، إلى آخره. ويتضح من هذا أن أبا فهر لا يفرق بين دوافع الاستشراق المختلفة، التي يقسمها بعض الباحثين، إلى دوافع سياسية، ودوافع دينية، ودوافع اقتصادية، ودوافع علمية؛ لأنه يرى أنها في حقيقتها تسعى إلى هدف واحد، وهو السيطرة على العالم الإسلامي، وفكره، وثقافته، وحضارته، ولذلك لا يهتم كثيراً بهذه التشقيقات والتقسيمات الشكلية التي لا تضيف جديداً إلى هدف الاستشراق ومآربه. وقد تيقن الاستشراق من حقيقة وجدية هذه الصحوة الإسلامية، ولذا قاموا بدورهم المنوط، وهو تنبيه بلادهم من خطر هذه النهضة، وذلك على اعتبار أن المستشرقين هم عيون الغرب وحملة هموم المسيحية الشمالية، والذادة عنها، وحماتها المستبسلون، ولهذا هبوا فازعين من يقظة دار الإسلام وتسارعوا في نقل أخبار كل صغيرة وكبيرة مما يشاهدونه في يقظتنا «ووضعوه بيننا جلياً - مشفوعاً بمخاوفهم، وملاحظتهم، ونصحهم، وإرشادهم - تحت أبصار ملوك المسيحية الشمالية، وأمرائها، ورؤسائها، وقادتها، وساستها، ورهبانها، وبصروهم بالعواقب الوخيمة المخوفة، من هذه اليقظة الوليدة، التي بدأت تنساح في دار الإسلام.فشاكر لا يفرق بين الاستعمار والاستشراق، أو بينهما وبين التبشير، لأنهم جميعاً في رأيه يسعون إلى هدف واحد ـ بخاصة في تلك الفترة المبكرة - فهي أسماء متباينة لحقيقة واحدة.ويتهم البعض شاكر بأنه أحادي النظرة في حديثه عن الصراع بين الأمم والثقافات وذلك حيث يرد أشكال هذا الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية إلى عامل واحد وهو الدين، لأنه من الصعب تفسير حركة التاريخ بمثل هذه النظرة الأحادية لما يكتنفها من صعوبات ليس من السهل تجاوزها، فهذا التفسير تبسيط مخل لعالم معقد تتصادم فيه المصالح والعقائد والأهواء والانتماءات وربما يكون أحد هذه العوامل أكثر ظهوراً في مرحلة معينة وقد يكون قناعاً ساتراً لعوامل أخرى أشد منه خطراً وأعلى شأناً لكن ذلك كله لا يحجب عنا أن حقيقة الصراع معقدة وخيوطه متشابكة ويدرب على ذلك مثلاً بأنه لو كان الصراع دينياً فقد كما ذهب شاكر لكان معنى هذا أن تكون النهضة العلمية في الغرب قد تمت في أحضان الكنيسة وبهدى من تعاليمها وبتنسيق معها وأن يكون رموز العلم من المتدينين أو على الأقل توجب هذه النظرة ألا تقف الكنيسة موقف المعارضة والتقييد والقمع من كل مكتشف أو مخترع أو صاحب فكر حر، لكن حركة التاريخ تقول غير ذلك فقد كانت الانقسامات والخلافات الدينية بين فصائل الكنيسة على أشدها فكان هناك صراع محموم بين البروتستانت والكاثوليك وبين المتدينين والاتجاهات العقلانية وأنصار الدين الطبيعي.وهذا ليس صحيحاً على إطلاقه فقد أثبتت الأحداث والوقائع الأخيرة أن الصراع بين الشرق والغرب يحركه بالدرجة الأولى عامل الدين، إضافة إلى عوامل أخرى لكنها في مجملها عوامل مساعدة وتأتي في مرحلة تالية لهذا العامل المهم الذي كان أساس الصراع بين الشرق والغرب على مر التاريخ. كما أن الدراسات العربية الحديثة مثل كتاب صموئيل هانتنغتون (صراع الحضارات) الذي يرشح الإسلام لعدو يهدد الغرب بعد انهيار الشيوعية، وكذلك كتاب الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون (انتهزوا الفرصة) لما يؤكد صدق رؤية شاكر في تحليله حقيقة الصراع والأبعاد الخفية التي تحركه.بدأ المستشرقون يستشعرون الخوف على بلادهم إذا ما استوت هذه اليقظة الإسلامية قائمة تستعيد دورها الحضاري من جديد ولذلك «تناجوا بينهم نجوى طويلة، يُقلِّبون النظر في أهدافهم ووسائلهم، وتبينوا الخطر الداهم الذي جاء يتهددهم، إذا ما تمت هذه اليقظة واشتد عودها، واستقامت خطواتها على الطريق اللاحب. وببديهة العقل، لم يكن للمسيحية الشمالية يومئذٍ خيار طريق واحد لا غير، هو العمل السريع المحكم، واهتبال الغفلة المحيطة بهذه اليقظة الوليدة...، ومعالجتها في مهدها، قبل أن يتم تمامها، ويستفحل أمرها، وتصبح قوة قادرة على الصراع، والحركة، والانتشار.فهب الاستشراق مذعوراً يحذر أمته من الخطر القادم الذي يتهددهم. وهذا الذي ذهب إليه أبو فهر في حديثه عن دوافع الاستشراق وأهدافه، يكاد يكون من المجمع عليه بين الدارسين، كما أن قوله عن خوف الاستشراق، أو الاستعمار، من تجديد الحضارة الإسلامية، وبعثها، والعمل على إحياء الثقافة الإسلامية، التي تقف في وجه المسيحية، من الدوافع التي دفعت الأوروبيين، إلى دراسة الإسلام، ولغته، وآدابه والسعي بين أهله، لمعرفة كل ذلك، من المتفق عليه أيضا. فلما أحس الاستشراق هذا الخوف على بلادهم، نتيجة اليقظة الإسلامية الوليدة، التي تسعى إلى إحياء مجد الإسلام، وحضارته، وبالتالي تسعى إلى الحركة والانتشار من جديد، بعد توقفها عن ذلك قرابة قرنين من الزمان، هب يطالب بالقضاء على هذه اليقظة، وهبت معه أوروبا كلها، يصور ذلك أبو فهر بقوله: «فلما فزع الاستشراق، فزعت معه المسيحية الشمالية، ودولها التي كانت أساطيلها تطوق دار الإسلام، من أطرافها البعيدة، وتتوغل بسيطرتها على سواحلها، متحسسة طريقها إلى قلب هذه الدار المترامية الأطراف، بالدهاء، وبالمكر، وبالخديعة، وبالتنمر أحياناً، حين يتطلب الأمر التنمر والترويع.واستعر الصراع بين الدول الأوروبية على احتلال العالم الإسلامي واستنزاف ثرواته وكنوزه وخيراته بشراهة، وبدأ في الهند على الأطراف بعيداً من مركز السيادة في تركيا التي لم تكن قادرة في ذلك الوقت أن تفعل شيئاً لضعفها وانشغالها بالحفاظ على وجودها وهيبتها. ثم يقدم الأدلة على دور الاستشراق، ورجال الفكر الأوروبي، في تزيين الأمور للحكومة الفرنسية، باحتلال مصر، منذ منتصف القرن السابع عشر، وذلك من عهد ليبنتز، الفيلسوف الألماني، الذي التحق بالسلك الديبلوماسي، فقضى في باريس أربعة أعوام من 1672 - 1676م في بلاط لويس الرابع عشر، وقدم إليه في عام 1672م تقريراً، يحرضه فيه على اختراق دار الإسلام في مصر، ويرى أن ذلك الأمر، لم يكن من ليبنتز عفو الخاطر، وإنما كان عن متابعة واعية لملاحظات المستشرقين، الذين كانوا يجوبون دار الإسلام، ويمدون مثقفي المسيحية الشمالية، بما خبروه، من دخائل دار الإسلام، في مصر وغيرهاوظل هذا التحريض كما يرى أبو فهر كامناً في قلب ساسة فرنسا منذ منتصف القرن السابع عشر وهو ينمو على الأيام، ومضت مئة عام حتى كان عهد لويس التاسع عشر، وكبير وزرائه الدوق دي شوزال، الذي طمع أن تحتل فرنسا مصر، وذلك من طريق المفاوضة مع تركيا، حتى جاء عهد لويس السادس عشر 1774م، وكان الكونت سان برسيت سفيراً لفرنسا في الآستانة منذ عام 1768م، وأقام فيها ست عشرة سنة يرقب اضمحلال تركيا، وكان شديد الاهتمام بدار الإسلام في مصر، فكتب إلى حكومته يحضها على احتلال مصر، فأوفدت الحكومة الفرنسية البارون دي توت المجري الأصل الذي استوطن فرنسا، إلى تركيا، فلما عاد سنة 1776 قدم تقريراً إلى الحكومة الفرنسية، بأن تركيا في سبيل الانحلال، ونصح الحكومة بالإقدام على احتلال مصر، فأرسلته مرة أخرى إلى ثغور الدولة العثمانية، فحضر إلى مصر ودرس سواحلها ومواقعها، وقدم تقريراً إلى الحكومة بيّن فيه مزايا احتلال مصر وسهولة تحقيق ذلك.كما أن الكونت سان بريست سفير فرنسا في الآستانة عاد إلى بلاده عام 1783، وقدم إليها تقريراً ثانياً في شأن احتلال مصر، ونصح حكومته بأن ذلك يكسب فرنسا مركزاً ممتازاً في العالم. كذلك فإن المسيو مور قنصل فرنسا في الإسكندرية في ذلك الحين، قدم إلى حكومته تقريراً يتضمن رأيه في قرب تفكك الدولة العثمانية، وينصح بضرورة احتلال مصر. لكن الحكومة الفرنسية ظلت مترددة ولم تأخذ بنصائحهم؛ فإنهم لم يستطيعوا أن ينسوا الحروب الصليبية، وما تكبدوه آنذاك من خسائر وهزائم فادحة.لكن في عام 1789م قامت الثورة الفرنسية وأعدمت لويس السادس عشر في يناير 1793م، وتتابعت شكاوى التجار الفرنسيين المقيمين بمصر إلى حكومة الثورة، يشكون ما أصابهم من سوء معاملة المماليك في مصر وما يلقونه من العنت، فعينت الحكومة الفرنسية الميسو «شارل مغالون» قنصلاً عاماً لفرنسا في مصر سنة 1793، وكان تاجراً فرنسياً أقام بمصر أكثر من ثلاثين سنة مشتغلاً بالتجارة، فأخذ يرسل إلى حكومته التقارير والمذكرات، مبيناً فيها عن عبث المماليك في مصر بمصالح التجار الفرنسيين، ومصرحاً بأن هذا العبث لا يمكن أن يزول إلا إذا استخدمت الجمهورية الفرنسية القوة في ردعهم، وحرضها على أن تتأهب لاحتلال مصر. وعاد مغالون إلى بلاده عام 1797م، وأخذ يحض رجال الدولة على احتلال مصر، ويبين لهم المزايا التي تعود على فرنسا بهذا الاحتلال، واقتنع كل من تاليران وزير الخارجية الفرنسي، ونابليون بونابرت، بآراء مغالون، فقدم وزير الخارجية تقريراً إلى حكومة الدير كتوار، ونصح الحكومة بإنفاذ حملة، فكانت حملة نابليون على مصر عام 1798م.ويرى شاكر أن الاستشراق لم يكن غائباً طرفة عين عن مقدمي هذه التقارير، والمذكرات التي رفعت إلى الحكومة الفرنسية، فهو صاحب الفضل في نشأة طبقة الساسة، الذين هم رجال الاستعمار، والذين توجهوا لإعداد العدة لاختراق دار الإسلام، وهو الذي كان يمدهم بخبرته الواسعة بأحوال دار الإسلام. ويربط بين هذه التواريخ التي بدأت فيها التقارير لحض فرنسا على احتلال دار الإسلام، منذ عهد ليبنتز إلى عهد مغالون، وبين عصر اليقظة في دار الإسلام ونهضتها الحقيقية في ذلك الحين على أيدي مجموعة من رجالها، الذين لم يغب نشاطهم، ومعرفة حقيقتهم، ودورهم في بعث وإحياء الحضارة الإسلامية، لحظة عن عيون المستشرقين، لكن المشكلة تكمن في الجو الثقافي أو الحياة الأدبية بحسب تعبير شاكر التي غابت عنها هذه الحقائق على رغم وضوحها وهذا يوضح أنها حياة أدبية فاسدة تلهو بمجموعة من الأوهام مثل الأصالة والمعاصرة، والقديم والجديد، والثقافة العالمية وموقفنا من الغرب. ويستخدم أبو فهر مصطلح حياتنا الأدبية بمعناه العام الذي يشمل الفكر والثقافة، ولا يقصره على مجال الدراسات الأدبية فقط. وهذا ما يؤكده في قوله: «وحين أقول حياتنا الأدبية فإني لا أعني الأدب وحده، أو الشعر وحده، بل أعني كل ما كانت الكلمة أصلاً فيه من أدب وشعر ودين وفلسفة وعلم، إلى آخر هذه السلسلة المتشابكة».
أحمد عرفات القاضي، الحياة ، 13/12/2008
رأى محمود شاكر أن العالم العربي والإسلامي كان على أعتاب نهضة حقيقية جديدة على يد مجموعة من علماء المسلمين منذ منتصف القرن الحادي عشر الهجري قبل بن عبد الوهاب بقرن من الزمان فعصر النهضة في الفكر الإسلامي الحديث يبدأ مع منتصف القرن الحادي عشر الهجري إلى منتصف القرن الثاني عشر على أيدي مجموعة من أعلام هذه الأمة في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي، وفى مجالات مختلفة كذلك، منهم في مصر: عبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب المتوفى في عام 1093هـ / 1683م، والجبرتي الكبير المتوفى عام 1188هـ / 1774م ومرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس المتوفى عام 1205هـ / 1790م، وفي نجد: محمد بن عبدالوهاب توفى 1206هـ / 1792م، وفي اليمن: الشوكاني المتوفى عام 1250هـ / 1734م. هؤلاء العلماء وغيرهم سعوا بكل همة للعمل على إحياء علوم الأمة في اللغة والأدب وعلوم الدين وحتى العلوم العملية لكن الاستشراق باعتباره حامل هموم المسيحية الغربية وعيونها التي تتابع ما يحدث في ديار الإسلام حذر قادة الدول الغربية لتنقض على العالم الإسلامي فتحتله لتحول دون هذه النهضة الواعدة حتى تتعثر النهضة الإسلامية وتعجز عن بلوغ هدفها المنشود، فالمستشرقون، الذين لم يتوانوا لحظة عن متابعة ورصد كل صغيرة وكبيرة تحدث في دار الإسلام، رصدت تلك النهضة الإسلامية الفتية، وأرسلت تحذيراتها إلى ملوك الغرب، الذين داهموا العالم الإسلامي، بجيوشهم وأساطيلهم، في حملة صليبية رابعة طوقت العالم الإسلامي، من أقصاه إلى أقصاه.وكان العالم الإسلامي آنذاك ما زال في بداية نهضته، فبغت بالهجمة الصليبية الجديدة، ولم يقدر على التصدي لكل هذه الجيوش، التي كانت أقوى منه عدة وعددا فيوضح دور المستشرقين الذين كانوا يجوبون دار الإسلام من أطرافها إلى قلبها، في محاولة لغز الأحداث واستكشافها يلاقون الخاصة من العلماء، ويخالطون عامة المثقفين والدهماء لمعرفة أسرار الأمة الإسلامية وأخبارها وذلك بقلوب مملوءة بالحقد ونفوس مصممة على الثأر عازمة عليه، ولذا كانت عيونهم متيقظة وعقولهم منتبهة ولبلوغ هدفهم هذا لبسوا لجمهرة المسلمين كل زي، وتوغلوا يستخرجون كل مخبوء وذلك في الوقت الذي كانت بلادهم قريبة عهد بالنهضة واليقظة والإحياء فهم على أتم معرفة بأسرار اليقظة، كيف تبدأ، وإلى أين تنتهي، فأدركوا إدراكاً واضحاً، أن ما كان يجري في دار الإسلام منذ منتصف القرن الحادي عشر الهجري - السابع عشر الميلادي) إلى منتصف القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) إنما هو يقظة حقيقية، ونهضة كاملة، وإحياء صحيح، يقوموا على تجديد الفكر الإسلامي وهضمه وتطويره بعد أن طمسته الأيام والدهور. وهذا الفكر الإسلامي الذي يسعى أبناء الأمة إلى بعثه وتجديده هو ما اعتمدت عليه النهضة الأوروبية في يقظتها، من أجل هذا وجفت قلوب هؤلاء المستشرقين من هول ما هم مقبلون عليه، إذا تمت لدار الإسلام اليقظة واستوت وبلغت أشدها، واستقامت خطواتها على سنن الطريق.هؤلاء المستشرقون لهم صفات مختلفة، فتارة يظهرون في ثياب المبشرين الداعين إلى المسيحية، وتارة في زي التجار، وتارة في زي طالب علم، إلى آخره. ويتضح من هذا أن أبا فهر لا يفرق بين دوافع الاستشراق المختلفة، التي يقسمها بعض الباحثين، إلى دوافع سياسية، ودوافع دينية، ودوافع اقتصادية، ودوافع علمية؛ لأنه يرى أنها في حقيقتها تسعى إلى هدف واحد، وهو السيطرة على العالم الإسلامي، وفكره، وثقافته، وحضارته، ولذلك لا يهتم كثيراً بهذه التشقيقات والتقسيمات الشكلية التي لا تضيف جديداً إلى هدف الاستشراق ومآربه. وقد تيقن الاستشراق من حقيقة وجدية هذه الصحوة الإسلامية، ولذا قاموا بدورهم المنوط، وهو تنبيه بلادهم من خطر هذه النهضة، وذلك على اعتبار أن المستشرقين هم عيون الغرب وحملة هموم المسيحية الشمالية، والذادة عنها، وحماتها المستبسلون، ولهذا هبوا فازعين من يقظة دار الإسلام وتسارعوا في نقل أخبار كل صغيرة وكبيرة مما يشاهدونه في يقظتنا «ووضعوه بيننا جلياً - مشفوعاً بمخاوفهم، وملاحظتهم، ونصحهم، وإرشادهم - تحت أبصار ملوك المسيحية الشمالية، وأمرائها، ورؤسائها، وقادتها، وساستها، ورهبانها، وبصروهم بالعواقب الوخيمة المخوفة، من هذه اليقظة الوليدة، التي بدأت تنساح في دار الإسلام.فشاكر لا يفرق بين الاستعمار والاستشراق، أو بينهما وبين التبشير، لأنهم جميعاً في رأيه يسعون إلى هدف واحد ـ بخاصة في تلك الفترة المبكرة - فهي أسماء متباينة لحقيقة واحدة.ويتهم البعض شاكر بأنه أحادي النظرة في حديثه عن الصراع بين الأمم والثقافات وذلك حيث يرد أشكال هذا الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية إلى عامل واحد وهو الدين، لأنه من الصعب تفسير حركة التاريخ بمثل هذه النظرة الأحادية لما يكتنفها من صعوبات ليس من السهل تجاوزها، فهذا التفسير تبسيط مخل لعالم معقد تتصادم فيه المصالح والعقائد والأهواء والانتماءات وربما يكون أحد هذه العوامل أكثر ظهوراً في مرحلة معينة وقد يكون قناعاً ساتراً لعوامل أخرى أشد منه خطراً وأعلى شأناً لكن ذلك كله لا يحجب عنا أن حقيقة الصراع معقدة وخيوطه متشابكة ويدرب على ذلك مثلاً بأنه لو كان الصراع دينياً فقد كما ذهب شاكر لكان معنى هذا أن تكون النهضة العلمية في الغرب قد تمت في أحضان الكنيسة وبهدى من تعاليمها وبتنسيق معها وأن يكون رموز العلم من المتدينين أو على الأقل توجب هذه النظرة ألا تقف الكنيسة موقف المعارضة والتقييد والقمع من كل مكتشف أو مخترع أو صاحب فكر حر، لكن حركة التاريخ تقول غير ذلك فقد كانت الانقسامات والخلافات الدينية بين فصائل الكنيسة على أشدها فكان هناك صراع محموم بين البروتستانت والكاثوليك وبين المتدينين والاتجاهات العقلانية وأنصار الدين الطبيعي.وهذا ليس صحيحاً على إطلاقه فقد أثبتت الأحداث والوقائع الأخيرة أن الصراع بين الشرق والغرب يحركه بالدرجة الأولى عامل الدين، إضافة إلى عوامل أخرى لكنها في مجملها عوامل مساعدة وتأتي في مرحلة تالية لهذا العامل المهم الذي كان أساس الصراع بين الشرق والغرب على مر التاريخ. كما أن الدراسات العربية الحديثة مثل كتاب صموئيل هانتنغتون (صراع الحضارات) الذي يرشح الإسلام لعدو يهدد الغرب بعد انهيار الشيوعية، وكذلك كتاب الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون (انتهزوا الفرصة) لما يؤكد صدق رؤية شاكر في تحليله حقيقة الصراع والأبعاد الخفية التي تحركه.بدأ المستشرقون يستشعرون الخوف على بلادهم إذا ما استوت هذه اليقظة الإسلامية قائمة تستعيد دورها الحضاري من جديد ولذلك «تناجوا بينهم نجوى طويلة، يُقلِّبون النظر في أهدافهم ووسائلهم، وتبينوا الخطر الداهم الذي جاء يتهددهم، إذا ما تمت هذه اليقظة واشتد عودها، واستقامت خطواتها على الطريق اللاحب. وببديهة العقل، لم يكن للمسيحية الشمالية يومئذٍ خيار طريق واحد لا غير، هو العمل السريع المحكم، واهتبال الغفلة المحيطة بهذه اليقظة الوليدة...، ومعالجتها في مهدها، قبل أن يتم تمامها، ويستفحل أمرها، وتصبح قوة قادرة على الصراع، والحركة، والانتشار.فهب الاستشراق مذعوراً يحذر أمته من الخطر القادم الذي يتهددهم. وهذا الذي ذهب إليه أبو فهر في حديثه عن دوافع الاستشراق وأهدافه، يكاد يكون من المجمع عليه بين الدارسين، كما أن قوله عن خوف الاستشراق، أو الاستعمار، من تجديد الحضارة الإسلامية، وبعثها، والعمل على إحياء الثقافة الإسلامية، التي تقف في وجه المسيحية، من الدوافع التي دفعت الأوروبيين، إلى دراسة الإسلام، ولغته، وآدابه والسعي بين أهله، لمعرفة كل ذلك، من المتفق عليه أيضا. فلما أحس الاستشراق هذا الخوف على بلادهم، نتيجة اليقظة الإسلامية الوليدة، التي تسعى إلى إحياء مجد الإسلام، وحضارته، وبالتالي تسعى إلى الحركة والانتشار من جديد، بعد توقفها عن ذلك قرابة قرنين من الزمان، هب يطالب بالقضاء على هذه اليقظة، وهبت معه أوروبا كلها، يصور ذلك أبو فهر بقوله: «فلما فزع الاستشراق، فزعت معه المسيحية الشمالية، ودولها التي كانت أساطيلها تطوق دار الإسلام، من أطرافها البعيدة، وتتوغل بسيطرتها على سواحلها، متحسسة طريقها إلى قلب هذه الدار المترامية الأطراف، بالدهاء، وبالمكر، وبالخديعة، وبالتنمر أحياناً، حين يتطلب الأمر التنمر والترويع.واستعر الصراع بين الدول الأوروبية على احتلال العالم الإسلامي واستنزاف ثرواته وكنوزه وخيراته بشراهة، وبدأ في الهند على الأطراف بعيداً من مركز السيادة في تركيا التي لم تكن قادرة في ذلك الوقت أن تفعل شيئاً لضعفها وانشغالها بالحفاظ على وجودها وهيبتها. ثم يقدم الأدلة على دور الاستشراق، ورجال الفكر الأوروبي، في تزيين الأمور للحكومة الفرنسية، باحتلال مصر، منذ منتصف القرن السابع عشر، وذلك من عهد ليبنتز، الفيلسوف الألماني، الذي التحق بالسلك الديبلوماسي، فقضى في باريس أربعة أعوام من 1672 - 1676م في بلاط لويس الرابع عشر، وقدم إليه في عام 1672م تقريراً، يحرضه فيه على اختراق دار الإسلام في مصر، ويرى أن ذلك الأمر، لم يكن من ليبنتز عفو الخاطر، وإنما كان عن متابعة واعية لملاحظات المستشرقين، الذين كانوا يجوبون دار الإسلام، ويمدون مثقفي المسيحية الشمالية، بما خبروه، من دخائل دار الإسلام، في مصر وغيرهاوظل هذا التحريض كما يرى أبو فهر كامناً في قلب ساسة فرنسا منذ منتصف القرن السابع عشر وهو ينمو على الأيام، ومضت مئة عام حتى كان عهد لويس التاسع عشر، وكبير وزرائه الدوق دي شوزال، الذي طمع أن تحتل فرنسا مصر، وذلك من طريق المفاوضة مع تركيا، حتى جاء عهد لويس السادس عشر 1774م، وكان الكونت سان برسيت سفيراً لفرنسا في الآستانة منذ عام 1768م، وأقام فيها ست عشرة سنة يرقب اضمحلال تركيا، وكان شديد الاهتمام بدار الإسلام في مصر، فكتب إلى حكومته يحضها على احتلال مصر، فأوفدت الحكومة الفرنسية البارون دي توت المجري الأصل الذي استوطن فرنسا، إلى تركيا، فلما عاد سنة 1776 قدم تقريراً إلى الحكومة الفرنسية، بأن تركيا في سبيل الانحلال، ونصح الحكومة بالإقدام على احتلال مصر، فأرسلته مرة أخرى إلى ثغور الدولة العثمانية، فحضر إلى مصر ودرس سواحلها ومواقعها، وقدم تقريراً إلى الحكومة بيّن فيه مزايا احتلال مصر وسهولة تحقيق ذلك.كما أن الكونت سان بريست سفير فرنسا في الآستانة عاد إلى بلاده عام 1783، وقدم إليها تقريراً ثانياً في شأن احتلال مصر، ونصح حكومته بأن ذلك يكسب فرنسا مركزاً ممتازاً في العالم. كذلك فإن المسيو مور قنصل فرنسا في الإسكندرية في ذلك الحين، قدم إلى حكومته تقريراً يتضمن رأيه في قرب تفكك الدولة العثمانية، وينصح بضرورة احتلال مصر. لكن الحكومة الفرنسية ظلت مترددة ولم تأخذ بنصائحهم؛ فإنهم لم يستطيعوا أن ينسوا الحروب الصليبية، وما تكبدوه آنذاك من خسائر وهزائم فادحة.لكن في عام 1789م قامت الثورة الفرنسية وأعدمت لويس السادس عشر في يناير 1793م، وتتابعت شكاوى التجار الفرنسيين المقيمين بمصر إلى حكومة الثورة، يشكون ما أصابهم من سوء معاملة المماليك في مصر وما يلقونه من العنت، فعينت الحكومة الفرنسية الميسو «شارل مغالون» قنصلاً عاماً لفرنسا في مصر سنة 1793، وكان تاجراً فرنسياً أقام بمصر أكثر من ثلاثين سنة مشتغلاً بالتجارة، فأخذ يرسل إلى حكومته التقارير والمذكرات، مبيناً فيها عن عبث المماليك في مصر بمصالح التجار الفرنسيين، ومصرحاً بأن هذا العبث لا يمكن أن يزول إلا إذا استخدمت الجمهورية الفرنسية القوة في ردعهم، وحرضها على أن تتأهب لاحتلال مصر. وعاد مغالون إلى بلاده عام 1797م، وأخذ يحض رجال الدولة على احتلال مصر، ويبين لهم المزايا التي تعود على فرنسا بهذا الاحتلال، واقتنع كل من تاليران وزير الخارجية الفرنسي، ونابليون بونابرت، بآراء مغالون، فقدم وزير الخارجية تقريراً إلى حكومة الدير كتوار، ونصح الحكومة بإنفاذ حملة، فكانت حملة نابليون على مصر عام 1798م.ويرى شاكر أن الاستشراق لم يكن غائباً طرفة عين عن مقدمي هذه التقارير، والمذكرات التي رفعت إلى الحكومة الفرنسية، فهو صاحب الفضل في نشأة طبقة الساسة، الذين هم رجال الاستعمار، والذين توجهوا لإعداد العدة لاختراق دار الإسلام، وهو الذي كان يمدهم بخبرته الواسعة بأحوال دار الإسلام. ويربط بين هذه التواريخ التي بدأت فيها التقارير لحض فرنسا على احتلال دار الإسلام، منذ عهد ليبنتز إلى عهد مغالون، وبين عصر اليقظة في دار الإسلام ونهضتها الحقيقية في ذلك الحين على أيدي مجموعة من رجالها، الذين لم يغب نشاطهم، ومعرفة حقيقتهم، ودورهم في بعث وإحياء الحضارة الإسلامية، لحظة عن عيون المستشرقين، لكن المشكلة تكمن في الجو الثقافي أو الحياة الأدبية بحسب تعبير شاكر التي غابت عنها هذه الحقائق على رغم وضوحها وهذا يوضح أنها حياة أدبية فاسدة تلهو بمجموعة من الأوهام مثل الأصالة والمعاصرة، والقديم والجديد، والثقافة العالمية وموقفنا من الغرب. ويستخدم أبو فهر مصطلح حياتنا الأدبية بمعناه العام الذي يشمل الفكر والثقافة، ولا يقصره على مجال الدراسات الأدبية فقط. وهذا ما يؤكده في قوله: «وحين أقول حياتنا الأدبية فإني لا أعني الأدب وحده، أو الشعر وحده، بل أعني كل ما كانت الكلمة أصلاً فيه من أدب وشعر ودين وفلسفة وعلم، إلى آخر هذه السلسلة المتشابكة».
أحمد عرفات القاضي، الحياة ، 13/12/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق