٢٨ ذو الحجة ١٤٢٨ هـ

ســر المكتبــة العامـــة
رنَّ هاتفي فحصل جزع. وتطلعت لي سيدة من الجهة المقابلة ونهرتني، بمعنى اياك ان تجيب وترفع صوتك. هنا، في المكتبة تصمت الناس احتراماً للسيد المتحدث الأول: الكتاب. والناس هنا لا هم لها سواه. وهو شيء كلي لا يقبل ان يتقاسم الانتباه مع احد أو شيء. والمكتبة ليست «المول» أو السوق المفتوحة، حيث الصمت حنين والهدوء نشد والصخب يملأ المسام.
هنا، هذه المكتبة. وعندما المح فيها كتابا وشعراء وباحثين، اعرف ان كل واحد جاء يبحث على رف ما، عن مساعدة ما. واحد يريد خاتمة او قفلة. وواحد غارق في مسرحية وتعوزه فكرة المشهد الأول. لقد بدأ كتابتها من الفصل الثالث.
وواحد يريد ان يعثر على قافية عند زميل قديم. وواحد يريد بكل بساطة موضوعاً تاريخياً وها هو يستعرض العناوين. آه، نابوليون. لماذا لا. لقد تذكره امس وهو يمر من قرب مثواه في ساحة «الانفاليد». جمال التاريخ الفرنسي كله في هذه الساحة الفسيحة والمذهبة التي اقيمت باسم معاقي الحروب. نحن في لبنان جعلنا الراحل ايلي حبيقة وزيرا لشؤون المعاقين بعد نهاية الحرب. تختلف اللفتة الانسانية من بلد إلى بلد. ولم يكن في امكاننا اكثر من وزارة في أي حال. نحن لسنا نابوليون. وساحة «الانفاليد» مليئة بالسياح القادمين من كل اوروبا. لقد جاءوا يتأكدون انه نائم ولن يفيق مرة أخرى. لقد ترك في جميع بلدانهم مجموعة من المقابر ومجموعة من صالات الاوبرا والمجامع الأدبية. لكنهم حزموا امرهم منذ زمن: لا يريدون المقابر الجماعية، ولتحتفل فرنسا وحدها بأبطالها وتقم القباب المذهبة لهم. وجميع ابطال اوروبا متشابهون: البطل هنا جزار هناك. المنتصر هنا تطارده الضحايا هناك. ولذلك لن يثير السياح هذا الموضوع في البطاقات البريدية التي يبعثون بها إلى الأهل والأصدقاء.
والجميع ايضاً متفق تقريبا على ان نابوليون الحالي افضل من الامبراطور الذي اراد لفرنسا الأرض والقارات ولم يرد لنفسه اكثر من حب جوزفين. نابوليون الحالي لا يقيم اعتبارا للرومانسيات: تخرج الزوجة من الباب الخلفي فتظهر الصديقة متأبطة فخامة الرئيس في بوادي الأقصر ووادي الملوك.
نابوليون الجديد لا يهدأ. يتغدى في قارة ويتعشى في اخرى وفي الاجازة يتأبط ذراع عارضة سابقة تتحدث الفرنسية بلكنة ايطالية. تخيل هذا المشهد: ايطالية من بلاد صوفيا لورين تهبط في حلم فرنسي من بلاد نابوليون. الأول، والثاني، وعصرهما.
في هذه المكتبة كل يبحث عن عالمه وعن كتابه. البعض لا يريد من الكتاب اكثر، أو غير، المتعة المطلقة في القراءة. غلاف واوراق وحبر، واذا كان الكون اختلف. هؤلاء الزوار هم اهل المكتبة الحقيقيون. هم اصحابها. هم مستحقوها. لا غاية سوى الغاية الكبرى، القراءة والانبهار. لكن في المكتبة ايضاً كثيرين مثلي. صيادو مواضيع وطالبو معونات. سوف يعثرون على سطر أو صفحة أو عنوان يذكرهم بما يريدون أن يكتبوا. وما يخرجون ابداً خلاة او خائبين. انها المكتبة العامة، حيث يعمل جميع كتاب الأمس من اجل كتاب اليوم الذين يعملون من اجل كتاب الغد.
سمير عطا الله ، الشرق الأوسط ، 7/1/2008

ليست هناك تعليقات: