ياسر حارب

عندما دخلت لأول مرة إحدى المكتبات في سنغافورة لم أستطع أن أواصل تقدمي بين الصفوف لشدة الازدحام. ظننت في البداية أن هناك حدثا ما يجري داخل المكتبة، ثم اكتشفت بعد أن تعودت ارتياد تلك المكتبة بأن الوضع هكذا على الدوام. حيث يفد الناس من جميع الأعمار ومن مختلف الأعراق والطوائف على المكتبات العامة والخاصة في سنغافورة إما بحثاً عن كتاب أو مشاركة في نشاط ثقافي بسيط.
في العام 1823 قال "ستامفورد رفلز" مؤسس سنغافورة إن التعليم يجب أن يتسابق مع التجارة حتى يتوازن الخير مع الشر. وفي تلك السنة قام بتأسيس أول مؤسسة تعليمية في الجزيرة وأصّل بذلك لأهمية العلم والمعرفة في تلك البقعة المنسية من العالم. وفي العام 1992 قامت الحكومة بوضع خطة طموحة لوضع بنية تحتية للمكتبات ولتشجيع القراءة، وبعد أن اكتملت البنية التحتية العام 2000 بتأسيس مجموعة كبيرة من المكتبات العامة وتزويدها بأحدث التقنيات لكي يستفيد منها أكبر عدد ممكن من الناس، قامت الحكومة بإطلاق مبادرات عدة لتشجيع الناس على القراءة فأطلقت مبادرة سمّتها ((اقرئي سنغافورة))، حيث تم اختيار 12 كتاباً لكي يقرأها السنغافوريون على مدى عشرة أسابيع، وقامت الحكومة بتقديم الدعم المادي لنوادي الكتاب المنتشرة في أنحاء الجزيرة لتستوعب أكبر عدد ممكن من الزوار حتى يتناقشوا في تلك الكتب.
استطاعت الحكومة من خلال هذه المبادرة أن تقوي أواصر الوحدة الوطنية بين المواطنين، وقد يستغرب البعض من هذا القول، ولكن الحكومة أوجدت 12 موضوعاً أو قضية مشتركة بين الناس ليتناقشوا حولها. فتجد مجموعة من الشباب في أحد المقاهي يتناقشون حول أحد تلك الكتب، وبلا شعور ينضم إليهم عدد من الناس الذين قرأوا الكتاب نفسه وتشكل لديهم رأي تجاهه. كما استطاعت الحكومة أن تروج لثقافة القراءة في المجتمع، وأوجدت طريقة مميزة لكي يكتشف الناس متعة القراءة. فعندما يقرأ المرء كتاباً ويكتشف أن كل من يعرفهم قد قرأوا الكتاب نفسه فإنه يشعر برابط غريب بينه وبينهم يدفع به لقراءة المزيد من (المشتركات) والتمتع بمحاورة الآخرين حولها.
لاحظ القائمون على المشروع أن بعض أفراد المجتمع السنغافوري أصبحوا أكثر قدرة على التعبير عن ذاتهم، ففي مجتمع تتمايز فيه العرقيات وتختلف الأديان بشكل بارز، يصعب على أبناء هذه الطوائف أن يعبروا عما يجول في أنفسهم للآخرين، فلكل اهتمامه ولكل معتقده. إلا أن هذا المشروع أوجد بينهم ثقافة مشتركة ساعدتهم على مشاركة الآخرين أشياء أخرى غير التي في الكتب، وهو أمر أساسي لوحدة أي مجتمع.
أما بالنسبة للصغار فقد أطلقت الحكومة برامج متخصصة لتشجيعهم على القراءة، أجملها هو برنامج موجه للأطفال الذين تقع أعمارهم بين (يوم واحد) وثلاث سنوات. فلقد لاحظت الحكومة أن نصف استعارات الكتب من المكتبات العامة خاصة بالأطفال، ولأن الأطفال لا يستطيعون أن يحصلوا على عضوية في المكتبات يقوم أولياء أمورهم باستعارة الكتب بأسمائهم، فأطلقت الحكومة برنامجاً سمّته (نولد لنقرأ، ونقرأ لنترابط) حيث أثبتت بعض الدراسات التي قامت بها الحكومة بأن القراءة للأطفال والأجنّة أيضاً يساعدهم على تعلّم المفردات اللغوية بسرعة، ويحفز لديهم القدرة التخيلية والإبداعية، وبالتالي يزيد من معدل مهارات التعلم ويجعل القراءة ركناً أساسياً من أركان حياتهم.
فقامت الحكومة بإطلاق حملات تسويق للبرنامج في المكتبات والمستشفيات وفي أقسام الولادة على وجه الخصوص حتى يشجعوا الآباء والأمهات على تسجيل أبنائهم في المكتبات، وما إن يولد الطفل حتى يعطى الوالدان حقيبة بها دفتر لتنظيم مواعيد استعارة الكتب وإرجاعها، وبطاقة اشتراك مجانية باسم الطفل على شكل مفتاح، في إشارة رمزية إلى أن هذه البطاقة هي مفتاح المعرفة لدى الطفل، وعلى الوالدين أن يستعيرا أربعة كتب في اليوم الذي يولد فيه الطفل ليقرآها له على مدى ثلاثة أشهر.
أما الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 4 سنوات فما فوق فإن الحكومة قد خصصت لهم برنامجاً مختلفاً، حيث شجّعت نوادي الكتب لكي تخصص جزءاً من برنامجها للأطفال عن طريق القراءة لهم مرة في الأسبوع. كان الهدف العام 2004 أن يؤسس 15 ناديا للأطفال خلال ثلاث سنوات يشترك فيها 2000 طالب، وكانت النتيجة أن تم تأسيس 45 نادياً اشترك فيها 2250 طفلاً. وتم فتح باب التطوع لمن يرغب في أن يقرأ للأطفال مرة في الأسبوع على ألا يقل سن المتطوع عن 15 عاماً. وقامت الحكومة بتجهيز كتيب تدريبي لهؤلاء المتطوعين وقامت بتدريبهم على أساليب القراءة لمختلف الأعمار لتحويل الجلسة إلى تجربة مسلية يستفيد منها الأطفال والمتطوعون على حد سواء.
يوجد اليوم في سنغافورة أكثر من 9.1 مليون عضو في المكتبات العامة من أصل 3.4 مليون نسمة، وفي هذه المكتبات تمت استعارة أكثر من 28 مليون كتاب العام 2006، والأهم من ذلك أن الكتاب والكاتب يحظيان باحترام وتقدير كبيرين في تلك الجزيرة الصغيرة.
في أقصى الشرق يقرأ الشباب الروايات والكتب، وفي وسط الشرق نقرأ الفنجان ونبحث عن الطوالع، حيث تعد كتب التنجيم هي ثاني أكثر الكتب قراءة في الوطن العربي - الطبخ يحتل المرتبة الأولى. عندما أحجم العالم العربي عن القراءة توقف إنتاجه العلمي والأدبي وتأخر في ركب الحضارة. وفي رأيي، فإننا إن استطعنا أن نلحلح مشكلة القراءة قليلاً فإننا سنتمكن من إيجاد اللبنة الأولى في بناء النهضة.
إن المعرفة حرية والجهل عبودية، ولأن نكون في مؤخرة عالم من الأحرار، خير ألف مرة من أن نكون في مقدمة عالم من العبيد.
الوقت (البحرينية)، 25/4/2008

مع ازدياد أعداد المستخدمين الذين يشاهدون مواقع الفيديو، مثل «يو توب» و«بي بي سي آي بلاير» BBC iPlayer، فإنّ سرعة تدفق البيانات بشكل دائم عبر الكابلات النحاسيّة وصلت الى اقصاها، ولذا يحذر الخبراء بضرورة إنفاق مليارات الدولارات الأميركيّة لتطوير البنى التحتيّة للإنترنت، وإلا فإنّ السرعات ستصبح بطيئة جدّا، وقد تنهار الإنترنت تحت وطأة كثرة استخدامها، الأمر الذي سيدمّر اقتصاد دول كاملة تعتمد على الإنترنت في تعاملاتها الماليّة والحكوميّة. ويمكن تشبيه هذه المشكلة بشوارع المدن القديمة التي صُمّمت منذ عقود بعيدة لتستوعب عدّدا معيّنا من السيّارات والمشاة، ولكن عدد السيّارات التي تسير فيها في وقت الذروة يفوق قدرتها، الأمر الذي نشهده على شكل ازدحامات خانقة. ويواجه العالم كلّه، والعالم العربيّ خصوصا، تحديات كبيرة في مواكبة الطلب المتزايد على الإنترنت، حيث انّ البنى التحتيّة الحاليّة لا توفر السرعات المرجوّة، كما ان تمديد شبكات ألياف ضوئيّة جديدة هو أمر مكلف جدّا، وخصوصا في العالم العربيّ.
مواقع يوتيوب وماي سياس وفيس بوك تمارس تأثيرا قويا علي انتخابات الرئاسة الامريكية.
هموم وأزمات عديدة تواجه اللغة العربية, وتصاحبها معها هموم وأزمات أخري تكاد تعصف بالهوية العربية.. فكلتاهما: اللغة والهوية متلازمتان ومشتركتان في صنع كياننا العربي الذي كاد يضيع ويغرق في خضم بحور( التغريب) و(العولمة) و(تيارات اللإذابة والمحو)!



يجب أن نبدأ باعتماد استراتيجية حقيقية لحفظ التراث الرقمي. لا يمكننا الاعتماد على عامل الحظ لتحقيق ذلك. على كل بلد أن يتمتع بمؤسسة مكلَّفة بتنسيق جهود حفظ الوثائق الرقمية على المستوى الوطني، مما يتيح تجنب التكرار في إنتاج المعلومات أو نسيانها. في الوقت ذاته، يجب اعتماد الانتقال الدوري للوثائق الرقمية من منصة إلكترونية إلى منصة أخرى. ففي جزء كبير من مراكز التوثيق والأرشيف، باتت تطبَّق هذه التقنية البسيطة بشكل تلقائي اليوم.
ظاهرة كاسحة تتبلور شواهدها أمام أعيننا.. لكني أشعر بأننا غير منتبهين لها بالقدر الكافي أو واعين لآثارها السلبية علي مستقبلنا.وتتلخص تلك الظاهرة في اتساع الهوة الثقافية والاجتماعية بين الطبقات الجديدة التي تحظي بالمال والإمكانات المادية من ناحية.. وجموع الشعب المصري المنغمس في الثقافة التقليدية الموروثة عبر القرون من ناحية أخري.. ويبدو الأمر اليوم أنه علي الرغم من وجود الجميع علي نفس الأرض وداخل نفس الحدود وحملهم نفس الجنسية واحتكاكهم ولو عن بعد في شوارع المدن المصرية.. إلا أن كلا من الفئتين تعيش في دنيا تختلف اختلافا جذريا عن التي تعيش فيه الأخري.ولم تعد القضية فقط هي اتساع الفوارق المادية بين الأغنياء والفقراء وإنما التباين الشاسع في السلوكيات والمثل والقيم والانتماء وأساليب التفكير والطموحات ومفاهيم الواجب تجاه الوطن والمجتمع. حتي اللغة العربية التي من المفترض أن تكون القاسم المشترك بينهم لم تعد كذلك بالفعل.فقد أصبح أبناء الطبقات الجديدة, خاصة من الشباب والنساء يتعالون علي اللغة العربية وتكاد ألسنتهم تعف عن استخدامها. ففي بعض شرائح الطبقات الراقية الجديدة لم يعد من' الشياكة' استخدام العربية للتفاهم, بل صار التحدث بلغة أجنبية دليلا علي أن المتحدث' ابن ذوات' ولا ينتمي للطبقات الكادحة.ويصيبني الغيظ الشديد عندما أسمع أما لا تتحدث مع أطفالها في الأماكن العامة إلا بالانجليزية أو الفرنسية وترفض أن ترد عليهم حين يتحدثون العربية. وهؤلاء يلحقون أبناءهم بالمدارس الأجنبية التي لا تدرس فيها اللغة العربية أصلا فيتخرج الأبناء وهم عاجزون حتي عن قراءة الصحف.ولا يمكن أن يتهمني أحد بالتزمت أو برفض الانفتاح ونبذ تعلم اللغات الأجنبية. بل إني أعتبر أن امتلاك هذه اللغات خاصة الانجليزية هو مفتاح من أهم مفاتيح النجاح في عالم اليوم والغد.. لكن امتلاك ناصية لغات أجنبية لا يعني علي الإطلاق احتقار اللغة القومية في أي بلد من البلاد. فما بالك بمصر الناطقة بالعربية وهي لغة من أهم لغات العالم, كما أنها لغة تراثنا وأدبنا وإبداعنا. وأنا أول من ينادي بتطوير اللغة وتبسيط قواعدها المعقدة. وقد لاقيت في سبيل ذلك حملات عاتية من الكثيرين. لكني متمسك بلغتي وأعلم أنها تستطيع بعد التطوير أن تعود إلي ما كانت عليه من سحر ودقة وجاذبية.ولا تقتصر المشكلة علي اللغة وحدها بل تتعداها إلي عمق الثقافة. فكثير من أبناء هذه الطبقات الجديدة يرفضون تلقائيا كل ما هو مصري وعربي, ويعتبرون أنفسهم أرقي من المجتمع الذي يعيشون فيه وأنهم ينحدرون من جنس أعلي ولا ينتمون لمصر إلا جغرافيا فقط بحكم مولدهم علي أرضها بالصدفة المحضة.وقد ثار جدل كبير حول عصر الملكية, ويؤكد البعض أنه كان أفضل العصور. لكنه بغض النظر عن حجج الأطراف المختلفة فقد كان حكم الملكية هو حكم طبقة لا تنتمي ثقافيا لمصر. كانت الأسرة المالكة لا تتحدث العربية فيما بينها إلا نادرا, وكان فاروق هو أول حاكم من أسرة محمد علي يجيد العربية إجادة فعلية. أما الباشوات والأعيان فكان معظمهم وخاصة زوجاتهم وأولادهم يعتبرون أنهم غرباء عن الشعب المصري وكانوا يتحدثون بالفرنسية أو الانجليزية أكثر من العربية. وقد التقيت في باريس برجل من أصل شامي ولد في مصر وعاش فيها حياة رغيدة حتي الثلاثين ثم هاجر إلي فرنسا, وفوجئت به يتحدث العربية بصعوبة وبلكنة أعجمية. وعندما سألته كيف ذلك أجاب بابتسامة عريضة:' في زمني أي في الثلاثينيات والأربعينيات لم نكن نتحدث بالعربية إلا مع الخدم'.فهل نتجه الآن إلي هذا الزمن الذي تعود فيه العربية لتكون لغة العامة والغوغاء, وتكون لغة الصفوة هي الانجليزية والفرنسية؟ هل الحل هو أن نمسخ الهوية المصرية والعربية لكي تستجيب لطرقاتنا أبواب التقدم أنا شخصيا لا أعتقد ذلك وأتصور أن التقدم؟ لن يتأتي إلا من خلال الحفاظ علي لغتنا وتراثنا وحضارتنا بشرط الانفتاح علي الآخرين وأخذ أفضل ما عندهم.ووجود ثقافتين مختلفتين بينهما تناقض في العمق سيؤدي إلي إيجاد فجوة رهيبة بين أبناء الشعب المصري ويجعل التفاهم بين الطرفين شبه مستحيل بعد جيل أو جيلين, وتتصاعد مشاعر التنافر والكراهية المتبادلة مما ينسف مبدأ السلام الاجتماعي وينذر بصدام بين الطرفين.ويتحتم علينا أن نسرع بتدارك هذه المحنة التي تطل برأسها المخيف كما فعلت دول أخري كثيرة. فعندما زار لينين لندن في بداية القرن العشرين سألوه عند عودته كيف وجدت هذه المدينة قال:' لم أر مدينة واحدة.. بل مدينتين'. لكن بريطانيا استطاعت بسرعة أن تقرب المسافات الاقتصادية والثقافية بين طبقاتها.ونحن نسير اليوم في طريق شائك سيؤدي إلي حدوث انفصال تام بين طبقة عليا تتحدث اللغات الأجنبية وتتعامل مع الإنترنت من جانب.. وغالبية الشعب المنفصلة عن الحداثة من جانب آخر وكأنهما عالمان متوازيان لا يلتقيان أبدا.. أي كأنهما مصران.