١٥ مايو ٢٠٠٨

مصـــــران

مصـــــران ظاهرة كاسحة تتبلور شواهدها أمام أعيننا‏..‏ لكني أشعر بأننا غير منتبهين لها بالقدر الكافي أو واعين لآثارها السلبية علي مستقبلنا‏.‏وتتلخص تلك الظاهرة في اتساع الهوة الثقافية والاجتماعية بين الطبقات الجديدة التي تحظي بالمال والإمكانات المادية من ناحية‏..‏ وجموع الشعب المصري المنغمس في الثقافة التقليدية الموروثة عبر القرون من ناحية أخري‏..‏ ويبدو الأمر اليوم أنه علي الرغم من وجود الجميع علي نفس الأرض وداخل نفس الحدود وحملهم نفس الجنسية واحتكاكهم ولو عن بعد في شوارع المدن المصرية‏..‏ إلا أن كلا من الفئتين تعيش في دنيا تختلف اختلافا جذريا عن التي تعيش فيه الأخري‏.‏ولم تعد القضية فقط هي اتساع الفوارق المادية بين الأغنياء والفقراء وإنما التباين الشاسع في السلوكيات والمثل والقيم والانتماء وأساليب التفكير والطموحات ومفاهيم الواجب تجاه الوطن والمجتمع‏.‏ حتي اللغة العربية التي من المفترض أن تكون القاسم المشترك بينهم لم تعد كذلك بالفعل‏.‏فقد أصبح أبناء الطبقات الجديدة‏,‏ خاصة من الشباب والنساء يتعالون علي اللغة العربية وتكاد ألسنتهم تعف عن استخدامها‏.‏ ففي بعض شرائح الطبقات الراقية الجديدة لم يعد من‏'‏ الشياكة‏'‏ استخدام العربية للتفاهم‏,‏ بل صار التحدث بلغة أجنبية دليلا علي أن المتحدث‏'‏ ابن ذوات‏'‏ ولا ينتمي للطبقات الكادحة‏.‏ويصيبني الغيظ الشديد عندما أسمع أما لا تتحدث مع أطفالها في الأماكن العامة إلا بالانجليزية أو الفرنسية وترفض أن ترد عليهم حين يتحدثون العربية‏.‏ وهؤلاء يلحقون أبناءهم بالمدارس الأجنبية التي لا تدرس فيها اللغة العربية أصلا فيتخرج الأبناء وهم عاجزون حتي عن قراءة الصحف‏.‏ولا يمكن أن يتهمني أحد بالتزمت أو برفض الانفتاح ونبذ تعلم اللغات الأجنبية‏.‏ بل إني أعتبر أن امتلاك هذه اللغات خاصة الانجليزية هو مفتاح من أهم مفاتيح النجاح في عالم اليوم والغد‏..‏ لكن امتلاك ناصية لغات أجنبية لا يعني علي الإطلاق احتقار اللغة القومية في أي بلد من البلاد‏.‏ فما بالك بمصر الناطقة بالعربية وهي لغة من أهم لغات العالم‏,‏ كما أنها لغة تراثنا وأدبنا وإبداعنا‏.‏ وأنا أول من ينادي بتطوير اللغة وتبسيط قواعدها المعقدة‏.‏ وقد لاقيت في سبيل ذلك حملات عاتية من الكثيرين‏.‏ لكني متمسك بلغتي وأعلم أنها تستطيع بعد التطوير أن تعود إلي ما كانت عليه من سحر ودقة وجاذبية‏.‏ولا تقتصر المشكلة علي اللغة وحدها بل تتعداها إلي عمق الثقافة‏.‏ فكثير من أبناء هذه الطبقات الجديدة يرفضون تلقائيا كل ما هو مصري وعربي‏,‏ ويعتبرون أنفسهم أرقي من المجتمع الذي يعيشون فيه وأنهم ينحدرون من جنس أعلي ولا ينتمون لمصر إلا جغرافيا فقط بحكم مولدهم علي أرضها بالصدفة المحضة‏.‏وقد ثار جدل كبير حول عصر الملكية‏,‏ ويؤكد البعض أنه كان أفضل العصور‏.‏ لكنه بغض النظر عن حجج الأطراف المختلفة فقد كان حكم الملكية هو حكم طبقة لا تنتمي ثقافيا لمصر‏.‏ كانت الأسرة المالكة لا تتحدث العربية فيما بينها إلا نادرا‏,‏ وكان فاروق هو أول حاكم من أسرة محمد علي يجيد العربية إجادة فعلية‏.‏ أما الباشوات والأعيان فكان معظمهم وخاصة زوجاتهم وأولادهم يعتبرون أنهم غرباء عن الشعب المصري وكانوا يتحدثون بالفرنسية أو الانجليزية أكثر من العربية‏.‏ وقد التقيت في باريس برجل من أصل شامي ولد في مصر وعاش فيها حياة رغيدة حتي الثلاثين ثم هاجر إلي فرنسا‏,‏ وفوجئت به يتحدث العربية بصعوبة وبلكنة أعجمية‏.‏ وعندما سألته كيف ذلك أجاب بابتسامة عريضة‏:'‏ في زمني أي في الثلاثينيات والأربعينيات لم نكن نتحدث بالعربية إلا مع الخدم‏'.‏فهل نتجه الآن إلي هذا الزمن الذي تعود فيه العربية لتكون لغة العامة والغوغاء‏,‏ وتكون لغة الصفوة هي الانجليزية والفرنسية؟ هل الحل هو أن نمسخ الهوية المصرية والعربية لكي تستجيب لطرقاتنا أبواب التقدم أنا شخصيا لا أعتقد ذلك وأتصور أن التقدم؟ لن يتأتي إلا من خلال الحفاظ علي لغتنا وتراثنا وحضارتنا بشرط الانفتاح علي الآخرين وأخذ أفضل ما عندهم‏.‏ووجود ثقافتين مختلفتين بينهما تناقض في العمق سيؤدي إلي إيجاد فجوة رهيبة بين أبناء الشعب المصري ويجعل التفاهم بين الطرفين شبه مستحيل بعد جيل أو جيلين‏,‏ وتتصاعد مشاعر التنافر والكراهية المتبادلة مما ينسف مبدأ السلام الاجتماعي وينذر بصدام بين الطرفين‏.‏ويتحتم علينا أن نسرع بتدارك هذه المحنة التي تطل برأسها المخيف كما فعلت دول أخري كثيرة‏.‏ فعندما زار لينين لندن في بداية القرن العشرين سألوه عند عودته كيف وجدت هذه المدينة قال‏:'‏ لم أر مدينة واحدة‏..‏ بل مدينتين‏'.‏ لكن بريطانيا استطاعت بسرعة أن تقرب المسافات الاقتصادية والثقافية بين طبقاتها‏.‏ونحن نسير اليوم في طريق شائك سيؤدي إلي حدوث انفصال تام بين طبقة عليا تتحدث اللغات الأجنبية وتتعامل مع الإنترنت من جانب‏..‏ وغالبية الشعب المنفصلة عن الحداثة من جانب آخر وكأنهما عالمان متوازيان لا يلتقيان أبدا‏..‏ أي كأنهما مصران‏.‏
شريف الشوباشي، الأهرام، 30/4/2008

هناك تعليق واحد:

mona shawky يقول...

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
موضوع فقد الهوية يحتاج منا إلى التطوير الفعلى للغتنا فمن أسبابه ترك أسباب النهوض ومن ثم اعتبرت اللغة العربية رمز للتخلف والرجعية السبيل هى المحاولات الدءؤبة لتفعيل حملات الترجمة من وإلى اللغة العربية ودعم الثقافة العربية بكل مجالاتها وفنونها .