البحث العلمي بين التخطيط والتنفيذ ؛
قراءة في خطة جامعة القاهرة الخمسية للبحث العلمي
أ. د. حشمت قاسم
كما هو الحال في أي نظام اجتماعي ، فإن الإدارة تعني بالنسبة للبحث العلمي الكثير ، فنحن ننظر إلى النشاط العلمي بوصفه نظاماً اجتماعياً ، يشكل الاتصال العلمي جوهره ، وتعمل الإدارة علي ترشيد مساراته ، ودعم مقوماته ، والارتفاع بمستوى عائداته. والتخطيط أحد مكونات العملية الإدارية كما نعلم ، ولمصر تاريخها الطويل وخبراتها الثرية في التخطيط للبحث العلمي. وفضلاً عن الخطة الوطنية الشاملة ، هناك الخطط الخاصة بالقطاعات التخصصية ، وتلك الخاصة بالمؤسسات الضالعة في البحث العلمي ، وفي مقدمتها الجامعات ومراكز البحوث . ويشكل البحث العلمي الذي يهدف إلى تنمية المعرفة البشرية الأساسية ، وذلك الذي يرمي إلي تطوير الأداء في قطاعات الإنتاج والخدمات ، إحدى الوظائف الثلاث التي تنهض بها الجامعات في مختلف المجتمعات . وفي مارس من العام 2006م ، أصدرت جامعة القاهرة خطتها الخمسية ( 2006 – 2011 م ) للبحث العلمي . وقد توفر علي إعداد هذه الخطة ، تحت إشراف الأستاذ الدكتور معتـز خورشيد، نائب رئيس الجامعة لشئون الدراسات العليا والبحوث ، لجنة مركزية وعدد من اللجان القطاعية . ولوثيقة هذه الخطة أهمية تؤهلها لاجتذاب اهتمام الأوساط العلمية والقطاعات الحريصة علي دعم البحث العلمي واستثمار نتائجه ، علي الصعيدين الوطني والعربي ، لأن قناعتنا التي لا تتزعزع هي أن الوطن العربي ليس مجتمعاً لغوياً واحداً فحسب ، وإنما مجتمع علمي ومجتمع معلوماتي واحد أيضاً . واحتفاء بهذه الوثيقة ، وحرصاً علي التعريف بها علي النحو الذي يكفل تحقيق أهدافها ، نحاول في هذه السطور إلقاء الضوء علي بعض جوانبها . ولما بيننا من ود متصل ، حرصت علي إطلاع الأستاذ الدكتور معتز خورشيد علي هذه الكلمة قبل نشرها ، وكان بيننا حوار مثمر ، إذ كان لسيادته بعض الملاحظات التي وضعت في الحسبان عند صياغة هذه الكلمة في شكلها النهائي .
تتكون وثيقة هذه الخطة من ستة مجلدات ، يشتمل أولها (( الإطار العام )) علي المبادئ والأسس والأساليب المنهجية التي روعيت في إعداد الخطة بكل مكوناتها ، وكذلك الرؤى والأهداف والمحاور البحثية التي تقوم عليها الخطة ، بينما تشتمل المجلدات الخمسة الأخرى علي خطط القطاعات التخصصية التالية :
*قطاع العلوم الأساسية .
*قطاع العلوم الطبية .
*قطاع العلوم الهندسية .
*قطاع العلوم الاجتماعية .
*قطاع العلوم الإنسانية والتربوية .
ولم يتسع الوقت لإصدار خطة قطاع العلوم البينية متعددة التخصصات ، واكتفى القائمون علي إعداد هذه الخطة بتسجيل ما يتصل بهذه العلوم في خطط القطاعات التخصصية الأخرى .
ويتكون كل مجلد من هذه المجلدات القطاعية الخمسة من جزءين ، أولهما ((المناخ البحثي والتخطيط الإستراتيجي))، والثاني ((الخطة البحثية للقطاع الأكاديمي)). والجزء الأول نمطي ، مكرر في جميع المجلدات الخمسة ، إذ يشتمل علي أربعة عناصر بالإضافة إلى ملحق ، إلا أنه يختلف في تفصيلات محتواه من قطاع إلى آخر. ويتناول العنصر الأول مناخ البحث العلمي في مجتمعنا المعاصر ، ويتناول الثاني دور الجامعات في البحث العلمي ، في حين يتناول العنصر الثالث الإطار العام لخطة جامعة القاهرة ، ويعالج مستويات الخطة ، ومحاورها ، ومنظومة الخدمات البحثية التي تقدمها الجامعة للمجتمع ، والقوى البحثية المتوافرة لتقديم مثل هذه الخدمات. أما العنصر الرابع الأخير في هذا الجزء الأول فيتناول الخطة القطاعية من حيث مبررات إعدادها ، ومسئولية الإعداد. أما ملحق هذا الجزء فيشتمل على الخطوات التنفيذية التي اتبعت في إعداد الخطط البحثية القطاعية. وتبدأ هذه الخطوات بحصر الهياكل العلمية للكليات والمعاهد والأقسام والتخصصات في كل قطاع من القطاعات الأكاديمية الخمسة ، يليها تحديد المجالات البحثية للخطة الخمسية في كل قطاع ، ثم صياغة الرؤية الموحدة للمجالات البحثية الرئيسية ، بناء علي المواءمة بين العرض والطلب ، وتحديد المجالات البحثية الفرعية بكل مجال بحثي رئيسي ، وتحديد المجالات البحثية الفرعية المشتركة بين كليات القطاع ومعاهده ، أي المجالات البينية متعددة التخصصات ، وإعداد مصفوفات الهياكل العلمية في مقابل المجالات البحثية ، ثم تصنيف الجهود البحثية الحالية في كل قطاع تمهيداً لتحديد الجهود المستهدفة في الخطة الخمسية ، والتحقق من الخصائص البنيوية للمجالات البحثية الرئيسية ، وذلك من حيث احتمالات التطبيق ، ومدى التوافق مع الخطة الوطنية، وتضافر الجهود بين الباحثين وبعضهم البعض ، وبين المؤسسات وقنوات النشر المحلي والعالمي والتحكيم في كل منهما ، والتمويل ومصادره ، وأحجام البحوث تبعاً لحجم التمويل. ولتأكيد الموقف التنافسي لجامعة القاهرة ، كانت الخطوة الأخيرة في السلسة هي التحقق من أوجه التميز في كل قطاع أكاديمي ، وتشتمل هذه الأوجه الخبرات العلمية للأساتذة والباحثين ، والمختبرات ، والتجهيزات ، والأطروحات ، ومشروعات البحوث ، فضلاً عن أوجه التميز الأخرى. وكما سنرى فإن هذا الجزء يكرر كثيراً من محتوى مجلد ((الإطار العام)) وكان من الممكن لدواعي الاقتصاد تجنب هذا التكرار ، ولكن يبدو أن القائمين علي إعداد الخطة قد حرصوا علي أن يكون كل مجلد قطاعي عملاً قائماً بذاته .
ويشتمل الجزء الثاني في كل مجلد من المجلدات القطاعية الخمسة ، كما أشرنا ، علي الخطة البحثية للقطاع ، ويتكون من تسعة عناصر فضلاً عن الملحق. ويحلل العنصر الأول الخطة البحثية الخمسية للقطاع ، ويبدأ بخلفية عامة عن القطاع ، وأهداف الخطة ، وفي مقدمة هذه الأهداف ربط البحث العلمي بأولويات المجتمع وتحدياته ، ثم محاور الخطة التي تشمل الهياكل العلمية ، والمجالات البحثية الرئيسة والفرعية ، ومصفوفات ربط الهياكل العلمية بالمجالات التخصصية ، والمقومات البشرية والمادية والتقنية المتاحة لجامعة القاهرة ، ومصادر تمويل البحوث ، ثم برامج التنفيذ وآلياته . أما العنصر الثاني فيحلل الهياكل العلمية للقطاع الأكاديمي من الكليات والمعاهد والأقسام والتخصصات. ويستعرض العنصر الثالث المجالات البحثية الرئيسة والفرعية مرتبة وفق أولويات. ويشتمل العنصر الرابع علي مصفوفات الهياكل العلمية في مقابل المجالات البحثية الفرعية ، أما العنصر الخامس فيحلل التركيبة البحثية الحالية والتركيبة البحثية المستهدفة للقطاع . ويحلل العنصر السادس الخصائص البنيوية للجهود البحثية في القطاع ، من حيث احتمالات التطبيق ، والتوافق مع الخطة الوطنية ، وتضافر الجهود ، والنشر، ومصادر التمويل. ويتناول العنصر السابع أوجه التميز الكمي والنوعي في القطاع ، ويعالج العنصر الثامن ما يسمى الفجوة البحثية في القطاع. ويقصد بالفجوة البحثية في هذا السياق ، الفرق بين الأداء البحثي وقت إعداد الخطة والأداء البحثي المستهدف في نهاية الخطة . ويشمل تقدير الفجوة البحثية المكونات الثلاثة للنظام ، وهي المدخلات ، والعمليات التي ينطوي عليها النشاط العلمي ، ومخرجات نظام البحث العلمي في القطاع . وقد استخدم في هذا التقدير أسلوب محاكاة السيناريوهات البديلة. ويحلل العنصر التاسع الأخير متطلبات تمويل الجهود البحثية للخطة الخمسية في القطاع وفق ثلاثة تتابعات للأحداث ( سيناريوهات ) ، وهي التتابع الاستمراري ، والتتابع الأكثر احتمالاً أو الأرجح ، والتتابع المتفائل، وذلك تبعاً للجهود البحثية من أطروحات الماجستير والدكتوراه ، وبحوث الترقي في وظائف أعضاء هيئة التدريس ، والمشروعات البحثية ، وكذلك أوجه الإنفاق ، وذلك في كل مجال من المجالات الفرعية . ويشتمل ملحق هذا الجزء علي النماذج المستخدمة في تجميع البيانات .
ومن الجدير بالذكر أن كل مجلد من هذه المجلدات القطاعية الخمسة يمكن أن يكون موضوعاً لدراسة تحليلية متعمقة ، تحاول التحقق من استقامة منهج التصنيف ، ومدى الاطراد في تطبيقه ، ومدى التجانس في الفئات التخصصية الرئيسية والفرعية ، وترتيب الأولويات ... إلى آخر ذلك من عناصر هذه الخطط القطاعية . ويمكن أن يتصدى لمثل هذه الدراسة باحث أو أكثر من المتخصصين في كل قطاع .
ومن جانبنا ينصب اهتمامنا في هذا السياق علي الإطار العام للخطة ، وينقسم مجلد ((الإطار العام)) للخطة ، الذي أعده الأستاذ الدكتور معتز خورشيد، إلى خمسة فصول وملحقين ، ويتناول الفصل الأول مناخ البحث العلمي في مجتمعنا المعاصر ، ويركز علي ثلاث قضايا هي البحث العلمي ومجتمع المعلومات ، والعولمة وتدويل النشاط البحثي ، والفجوة العلمية والتكنولوجية بين الدول المتقدمة والدول النامية. ويشتمل هذا الفصل علي بعض المؤشرات المقارنة الخاصة بالإنفاق علي النشاط العلمي ، وعدد العلماء والباحثين، ومقومات الاتصالات بعيدة المدى. ويتناول الفصل الثاني دور الجامعات في البحث العلمي ، والهيكل المؤسساتي للبحث العلمي ، والإطار التنظيمي في الجامعات المصرية ، والاتجاهات الحديثة للبحث العلمي في الجامعات . ويعالج الفصل الثالث الرؤية والأهداف وإستراتيجيات التطوير في التخطيط للبحث العلمي في الجامعات ، اعتماداً علي نتائج الوصف التحليلي للوضع الراهن من الناحيتين الكمية والكيفية . ويركز الجانب الكمي علي التمويل المحلي والأجنبي والمشترك لمشروعات البحث من عام 1974 م حتى عام 2000م ، في القطاع السلعي ، والقطاع الإنتاجي ، والقطاع الخدمي ، فضلاً عن البحوث الأساسية. أما البعد الكيفي أو النوعي فيركز علي تخطيط البحث العلمي ، واستثمار تقنيات المعلومات والاتصالات ، والمكتبات وخدمات المعلومات ، والأجهزة والمختبرات ، والتكامل بين المجالات التخصصية ، والحرية الأكاديمية ، ومناهج البحث ، ومعايير الجودة ، ومنافذ النشر ، ومدى الاستمرار في ممارسة البحث العلمي ، ومقومات تهيئة المناخ البحثي الملائم ، ومنظومة القيم العلمية ، والرؤية الإستراتيجية ، ورسالة البحث العلمي في جامعة القاهرة ، والأهداف الإستراتيجية للبحث العلمي ، والموارد البشرية ، والمقومات المادية ، والموارد المالية، والأطر المؤسساتية، والبنية المعلوماتية الأساس ، والإمكانات الإدارية والتنظيمية ، والاتجاهات العالمية في البحث العلمي ، والطلب على البحث العلمي على الصعيد الوطني والعالمي ، ومحاور الخطة البحثية الخمسية لجامعة القاهرة.
ويتناول الفصل الرابع الإطار المنهجي للخطة، ويشمل مستويات التخطيط للبحث العلمي، ومحاور خطة جامعة القاهرة، ومنظومة الخدمات البحثية ، ومراحل وخطوات وضع الخطة موضوع اهتمامنا . ويعالج الفصل الخامس المحاور السبعة لخطة جامعة القاهرة الخماسية، وهي "تدويل البحث العلمي" و"القضايا البحثية ذات البعد القومي" و"بحوث الرسائل العلمية" و "تطوير البنية المؤسسية للبحث العلمي" و"الإدارة المتكاملة للأجهزة العلمية والمختبرات" و"دعم شباب الباحثين"، و"تمويل البحوث العلمية وتسويقها". ويحتاج كل محور من هذه المحاور السبعة إلى وقفة، ونولي المحور الأول ، الخاص بتدويل البحث العلمي، قدراً من الاهتمام في هذا السياق، ونرجو أن تتاح الفرصة لبقية المحاور في أعمال لاحقة.
يذكرنا تدويل النشاط العلمي بمبدأ كانت له السيادة يوما ما، وهو أن " العلم لا وطن له ". ويعني هذا المبدأ أن المعرفة العلمية تراث إنساني مشترك، ينبغي أن يتاح للكافة بلا قيد ولا شرط . وربما يكون هذا المبدأ قد ظل صامداً حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، إذ تجلت أهمية العلم بكل جوانبه ومجالاته في غضون تلك الحرب ، كما أسهم بشكل ملحوظ في مجرياتها، على النحو الذي شجع على اتخاذ تدابير التكتم وفرض قيود السرية على نتائج بعض البحوث العلمية، وخصوصاً في المجالات التي تدعم القوة التنافسية للأطراف المتصارعة. واستمرت ممارسات التكتم والسرية هذه حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وربما تكون قد ازدادت ترسخاً في حقبة الحرب الباردة، على النحو الذي أدى إلى اقتران سباق التسلح بسباق البحث العلمي بشكل لا فكاك منه.
ولما كان الأمر كذلك فإننا لا ينبغي أن نتوقف عند حدود مقولة " العلم لا وطن له"، ونستطرد للقول بأن للعالم وطن يشرف بالانتماء إليه، ولا يدخر وسعا في خدمة مصالح هذا الوطن؛ فلكل وطن تحدياته وأولوياته التي ينبغي أن تكون لها الصدارة في استخدام العلماء لأسلحتهم المنهجية. والبحث العلمي والنشر كما نعلم صنوان، فلا غنى لأحدهما عن الآخر. والنشر هو الكفيل بمشايعة المعرفة العلمية ، إلا أن هذا النشر يخضع الآن لمعايير الانتقائية المرتبطة بالعلاقات التنافسية ، ولكل مجتمع دواعيه ومعاييره في هذا الصدد. ويمكن القول أن تدابير الحظر والتكتم قد لا تشتمل سوى قطاع محدود من نتائج البحوث العلمية، كما أن هذا الحظر غالباً ما يكون مؤقتا وإن تفاوت مداه الموضوعي والزمني، كما أنه لا يمس طبيعة النشاط العلمي بوصفة نظاماً اجتماعياً؛ فعبر منافذ النشر على اختلاف أشكالها وتفاوت مستوياتها، يتواصل الباحثون على الصعيدين الوطني والدولي، إذ تتصافح المجتمعات العلمية الوطنية وتتضافر فيما بينها لتشكل النظام العالمي. وعادة ما يتحقق هذا التكامل التفاعلي ، في الظروف السوية على نحو تلقائي، عبر قنوات التواصل العلمي الرسمية وغير الرسمية ، الوثائقية وغير الوثائقية، بما في ذلك الجامعات الافتراضية، والمؤتمرات واللقاءات والمنتديات العلمية.
ويقصد بتدويل البحث العلمي في الخطة الخمسية لجامعة القاهرة "إضفاء البعد الدولي أو متعدد الثقافات على العملية التعليمية والبحثية، بهدف الارتقاء بجودتها وتحقيق أهدافها العلمية والأكاديمية". ويرى القائمون على إعداد هذه الخطة في إضفاء البعد الدولي توجهاً يسعى للانفتاح على ثقافات بحثية متعددة، بمشاركة الأقران في الجامعات ومراكز البحوث، في المشروعات البحثية الأساسية والتطبيقية. كما يرون إن هذا التوجه يختلف عن ظاهرة العولمة، لأنه يمثل استراتيجية يتعين على الجامعات أتباعها، وهو بذلك تدويل لا يهدف إلى الربح المادي بقدر ما يهدف إلى دعم أواصر التفاعل والتكامل.
وكنا نتمنى ألا تتضمن هذه الخطة مجرد إيحاء بارتباط التدويل بالتمويل الخارجي. فنحن على قناعة بأن إضفاء البعد الدولي لا يتحقق إلا بدعم القدرات الذاتية الوطنية، البشرية والمالية والتقنية، على النحو الذي يكفل الندية في التعامل الدولي. لماذا لا يكون الارتفاع بمستوى الأداء في البحث العلمي، والاقتراب بالبحث العلمي إلى حدود التمويل الذاتي من بين أهدافنا الإستراتيجية؟ تستند الخطة الخمسية لجامعة القاهرة ، في اتجاهها نحو تدويل البحث العلمي ، إلى ما أوصت به اليونسكو ، في مؤتمرها العام الذي عقد عام 1998 ، وليس من بين أبعاد التدويل فيما أشارت به اليونسكو ، ما يتصل بتمويل البحث العلمي ، في حين تشير وثيقة خطة جامعة القاهرة إلى مؤسسات التمويل الإقليمية و الدولية ، كما تقدم من البيانات الإحصائية ما يدل على ارتفاع نسبة التمويل الأجنبي للبحث العلمي من حوالي 36.6% في الأعوام من 1974 إلى 1980م ، إلى حوالي 60.6% في الأعوام من 2001 إلى 2005م. ويرجع القائمون على وضع هذه الخطة هذه الزيادة في نسبة التمويل الأجنبي إلى المشروعات البحثية المشتركة، والاتفاقات العلمية والثقافية التي أبرمتها جامعة القاهرة من جامعات مناظرة. كما تسجل هذه الوثيقة "أن الاستفادة من هذه الفرص التمويلية المتاحة تتطلب إعداد مقترحات بحثية معقدة وفق توجهات بحثية تحددها جهات التمويل" (ص 152 من مجلد "الإطار العام"). ترى ، هل يمكن لتلك التوجهات أن تتوافق دائما مع الأولويات والتحديات المصرية؟ ألا يدعو ذلك للمراجعة المنهجية لتداعيات التمويل الأجنبي وانعكاساته على النشاط العلمي في مصر ، وخصوصا فيما يتعلق بقيم هذا النشاط وأخلاقياته ، وسلوك الباحثين واتجاهاتهم ، وقدرتهم على المبادرة ، وارتباط الجهود العلمية بالأولويات المصرية؟ إن هناك شروطا ينبغي أن تتوافر في توجهات البحث العلمي لكي يحقق أهدافه في دعم مقومات التنمية الاجتماعية والاقتصادية . هل يمكن لهذه الشروط أن تتوافر في ظل طغيان التمويل الخارجي؟
وفضلا عما سبق ، يشتمل المجلد الخاص بالإطار العام لخطة جامعة القاهرة الخمسية للبحث العلمي ، على ملحقين ، يشتمل أولهما على استمارة تجميع بيانات تقييم الوضع الراهن للبحث العلمي في جامعة القاهرة ، بينما يشتمل الملحق الثاني على نتائج التحليل النوعي للنشاط العلمي بجامعة القاهرة في الوقت الراهن . ويشمل هذا التحليل إدارة النشاط العلمي وتنظيمه ، واستخدام تقنيات المعلومات والاتصالات ، والمكتبات وخدمات المعلومات ، والأجهزة العلمية والمستلزمات البحثية ، ومستويات التضافر وتكامل الجهود ، وحرية البحث ، ومناهج البحث ومعايير الجودة ، والنشر ، والاستمرارية في ممارسة النشاط العلمي ، وسبل تحسين المناخ العلمي ، والأهمية النسبية لمصادر المعلومات، ومدى توافر الخدمات المعاونة في غير أوقات العمل الرسمية. ولنا بعض الملاحظات على الأداء المنهجي في هذا الملحق ، تتعلق باتساع مدى تنوع القضايا والموضوعات ، وحجم العينات ، ومستوى التحليل وأساليبه . ففي كثير من قضايا هذا الملحق مجال لاستخدام أساليب قياسات النشاط العلمي Scientometrics بوجه عام ، والقياسات الورقية Bibliometrics على وجه الخصوص الأمر الذي يتطلب الاعتماد على عينات من حجم مناسب يكفل التحقيق من الفروق الدقيقة ، واستخلاص النتائج التي يمكن الاعتداد بها.
وختاماً ، نحن مع هذه الوثيقة إزاء خطة منهجية ، توافرت لها مقومات التميز ، واستغرق إعدادها الآلاف من ساعات العمل على اختلاف المستويات الموضوعية والتحريرية والفنية للفئات المشاركة . ونرجو أن تحظى هذه الوثيقة باهتمام الأوساط العلمية ، كما نرجو أن نرى أثرها على أرض الواقع في التنفيذ الفعلي. كما نرجو أيضا أن تستثمر الخبرات المكتسبة في وضع هذه الخطة وتنفيذها ، في الارتفاع بمستوى الأداء في التخطيط للبحث العلمي على الصعيدين الوطني والمؤسساتي والقطاعي، والله تعالى وراء القصد ، وهو سبحانه الهادي إلى سواء السبيل .
للاستشهاد المرجعي:
حشمت قاسم. البحث البحث العلمي بين التخطيط والتنفيذ ؛ قراءة في خطة جامعة القاهرة الخمسية للبحث العلمي. دراسات عربية في المكتبات وعلم المعلومات. مج12، ع2 (مايو 2007). ص ص 7-15. متاحة على:
http://arab-librarians.blogspot.com/2008/05/blog-post_56.html
قراءة في خطة جامعة القاهرة الخمسية للبحث العلمي
أ. د. حشمت قاسم
كما هو الحال في أي نظام اجتماعي ، فإن الإدارة تعني بالنسبة للبحث العلمي الكثير ، فنحن ننظر إلى النشاط العلمي بوصفه نظاماً اجتماعياً ، يشكل الاتصال العلمي جوهره ، وتعمل الإدارة علي ترشيد مساراته ، ودعم مقوماته ، والارتفاع بمستوى عائداته. والتخطيط أحد مكونات العملية الإدارية كما نعلم ، ولمصر تاريخها الطويل وخبراتها الثرية في التخطيط للبحث العلمي. وفضلاً عن الخطة الوطنية الشاملة ، هناك الخطط الخاصة بالقطاعات التخصصية ، وتلك الخاصة بالمؤسسات الضالعة في البحث العلمي ، وفي مقدمتها الجامعات ومراكز البحوث . ويشكل البحث العلمي الذي يهدف إلى تنمية المعرفة البشرية الأساسية ، وذلك الذي يرمي إلي تطوير الأداء في قطاعات الإنتاج والخدمات ، إحدى الوظائف الثلاث التي تنهض بها الجامعات في مختلف المجتمعات . وفي مارس من العام 2006م ، أصدرت جامعة القاهرة خطتها الخمسية ( 2006 – 2011 م ) للبحث العلمي . وقد توفر علي إعداد هذه الخطة ، تحت إشراف الأستاذ الدكتور معتـز خورشيد، نائب رئيس الجامعة لشئون الدراسات العليا والبحوث ، لجنة مركزية وعدد من اللجان القطاعية . ولوثيقة هذه الخطة أهمية تؤهلها لاجتذاب اهتمام الأوساط العلمية والقطاعات الحريصة علي دعم البحث العلمي واستثمار نتائجه ، علي الصعيدين الوطني والعربي ، لأن قناعتنا التي لا تتزعزع هي أن الوطن العربي ليس مجتمعاً لغوياً واحداً فحسب ، وإنما مجتمع علمي ومجتمع معلوماتي واحد أيضاً . واحتفاء بهذه الوثيقة ، وحرصاً علي التعريف بها علي النحو الذي يكفل تحقيق أهدافها ، نحاول في هذه السطور إلقاء الضوء علي بعض جوانبها . ولما بيننا من ود متصل ، حرصت علي إطلاع الأستاذ الدكتور معتز خورشيد علي هذه الكلمة قبل نشرها ، وكان بيننا حوار مثمر ، إذ كان لسيادته بعض الملاحظات التي وضعت في الحسبان عند صياغة هذه الكلمة في شكلها النهائي .
تتكون وثيقة هذه الخطة من ستة مجلدات ، يشتمل أولها (( الإطار العام )) علي المبادئ والأسس والأساليب المنهجية التي روعيت في إعداد الخطة بكل مكوناتها ، وكذلك الرؤى والأهداف والمحاور البحثية التي تقوم عليها الخطة ، بينما تشتمل المجلدات الخمسة الأخرى علي خطط القطاعات التخصصية التالية :
*قطاع العلوم الأساسية .
*قطاع العلوم الطبية .
*قطاع العلوم الهندسية .
*قطاع العلوم الاجتماعية .
*قطاع العلوم الإنسانية والتربوية .
ولم يتسع الوقت لإصدار خطة قطاع العلوم البينية متعددة التخصصات ، واكتفى القائمون علي إعداد هذه الخطة بتسجيل ما يتصل بهذه العلوم في خطط القطاعات التخصصية الأخرى .
ويتكون كل مجلد من هذه المجلدات القطاعية الخمسة من جزءين ، أولهما ((المناخ البحثي والتخطيط الإستراتيجي))، والثاني ((الخطة البحثية للقطاع الأكاديمي)). والجزء الأول نمطي ، مكرر في جميع المجلدات الخمسة ، إذ يشتمل علي أربعة عناصر بالإضافة إلى ملحق ، إلا أنه يختلف في تفصيلات محتواه من قطاع إلى آخر. ويتناول العنصر الأول مناخ البحث العلمي في مجتمعنا المعاصر ، ويتناول الثاني دور الجامعات في البحث العلمي ، في حين يتناول العنصر الثالث الإطار العام لخطة جامعة القاهرة ، ويعالج مستويات الخطة ، ومحاورها ، ومنظومة الخدمات البحثية التي تقدمها الجامعة للمجتمع ، والقوى البحثية المتوافرة لتقديم مثل هذه الخدمات. أما العنصر الرابع الأخير في هذا الجزء الأول فيتناول الخطة القطاعية من حيث مبررات إعدادها ، ومسئولية الإعداد. أما ملحق هذا الجزء فيشتمل على الخطوات التنفيذية التي اتبعت في إعداد الخطط البحثية القطاعية. وتبدأ هذه الخطوات بحصر الهياكل العلمية للكليات والمعاهد والأقسام والتخصصات في كل قطاع من القطاعات الأكاديمية الخمسة ، يليها تحديد المجالات البحثية للخطة الخمسية في كل قطاع ، ثم صياغة الرؤية الموحدة للمجالات البحثية الرئيسية ، بناء علي المواءمة بين العرض والطلب ، وتحديد المجالات البحثية الفرعية بكل مجال بحثي رئيسي ، وتحديد المجالات البحثية الفرعية المشتركة بين كليات القطاع ومعاهده ، أي المجالات البينية متعددة التخصصات ، وإعداد مصفوفات الهياكل العلمية في مقابل المجالات البحثية ، ثم تصنيف الجهود البحثية الحالية في كل قطاع تمهيداً لتحديد الجهود المستهدفة في الخطة الخمسية ، والتحقق من الخصائص البنيوية للمجالات البحثية الرئيسية ، وذلك من حيث احتمالات التطبيق ، ومدى التوافق مع الخطة الوطنية، وتضافر الجهود بين الباحثين وبعضهم البعض ، وبين المؤسسات وقنوات النشر المحلي والعالمي والتحكيم في كل منهما ، والتمويل ومصادره ، وأحجام البحوث تبعاً لحجم التمويل. ولتأكيد الموقف التنافسي لجامعة القاهرة ، كانت الخطوة الأخيرة في السلسة هي التحقق من أوجه التميز في كل قطاع أكاديمي ، وتشتمل هذه الأوجه الخبرات العلمية للأساتذة والباحثين ، والمختبرات ، والتجهيزات ، والأطروحات ، ومشروعات البحوث ، فضلاً عن أوجه التميز الأخرى. وكما سنرى فإن هذا الجزء يكرر كثيراً من محتوى مجلد ((الإطار العام)) وكان من الممكن لدواعي الاقتصاد تجنب هذا التكرار ، ولكن يبدو أن القائمين علي إعداد الخطة قد حرصوا علي أن يكون كل مجلد قطاعي عملاً قائماً بذاته .
ويشتمل الجزء الثاني في كل مجلد من المجلدات القطاعية الخمسة ، كما أشرنا ، علي الخطة البحثية للقطاع ، ويتكون من تسعة عناصر فضلاً عن الملحق. ويحلل العنصر الأول الخطة البحثية الخمسية للقطاع ، ويبدأ بخلفية عامة عن القطاع ، وأهداف الخطة ، وفي مقدمة هذه الأهداف ربط البحث العلمي بأولويات المجتمع وتحدياته ، ثم محاور الخطة التي تشمل الهياكل العلمية ، والمجالات البحثية الرئيسة والفرعية ، ومصفوفات ربط الهياكل العلمية بالمجالات التخصصية ، والمقومات البشرية والمادية والتقنية المتاحة لجامعة القاهرة ، ومصادر تمويل البحوث ، ثم برامج التنفيذ وآلياته . أما العنصر الثاني فيحلل الهياكل العلمية للقطاع الأكاديمي من الكليات والمعاهد والأقسام والتخصصات. ويستعرض العنصر الثالث المجالات البحثية الرئيسة والفرعية مرتبة وفق أولويات. ويشتمل العنصر الرابع علي مصفوفات الهياكل العلمية في مقابل المجالات البحثية الفرعية ، أما العنصر الخامس فيحلل التركيبة البحثية الحالية والتركيبة البحثية المستهدفة للقطاع . ويحلل العنصر السادس الخصائص البنيوية للجهود البحثية في القطاع ، من حيث احتمالات التطبيق ، والتوافق مع الخطة الوطنية ، وتضافر الجهود ، والنشر، ومصادر التمويل. ويتناول العنصر السابع أوجه التميز الكمي والنوعي في القطاع ، ويعالج العنصر الثامن ما يسمى الفجوة البحثية في القطاع. ويقصد بالفجوة البحثية في هذا السياق ، الفرق بين الأداء البحثي وقت إعداد الخطة والأداء البحثي المستهدف في نهاية الخطة . ويشمل تقدير الفجوة البحثية المكونات الثلاثة للنظام ، وهي المدخلات ، والعمليات التي ينطوي عليها النشاط العلمي ، ومخرجات نظام البحث العلمي في القطاع . وقد استخدم في هذا التقدير أسلوب محاكاة السيناريوهات البديلة. ويحلل العنصر التاسع الأخير متطلبات تمويل الجهود البحثية للخطة الخمسية في القطاع وفق ثلاثة تتابعات للأحداث ( سيناريوهات ) ، وهي التتابع الاستمراري ، والتتابع الأكثر احتمالاً أو الأرجح ، والتتابع المتفائل، وذلك تبعاً للجهود البحثية من أطروحات الماجستير والدكتوراه ، وبحوث الترقي في وظائف أعضاء هيئة التدريس ، والمشروعات البحثية ، وكذلك أوجه الإنفاق ، وذلك في كل مجال من المجالات الفرعية . ويشتمل ملحق هذا الجزء علي النماذج المستخدمة في تجميع البيانات .
ومن الجدير بالذكر أن كل مجلد من هذه المجلدات القطاعية الخمسة يمكن أن يكون موضوعاً لدراسة تحليلية متعمقة ، تحاول التحقق من استقامة منهج التصنيف ، ومدى الاطراد في تطبيقه ، ومدى التجانس في الفئات التخصصية الرئيسية والفرعية ، وترتيب الأولويات ... إلى آخر ذلك من عناصر هذه الخطط القطاعية . ويمكن أن يتصدى لمثل هذه الدراسة باحث أو أكثر من المتخصصين في كل قطاع .
ومن جانبنا ينصب اهتمامنا في هذا السياق علي الإطار العام للخطة ، وينقسم مجلد ((الإطار العام)) للخطة ، الذي أعده الأستاذ الدكتور معتز خورشيد، إلى خمسة فصول وملحقين ، ويتناول الفصل الأول مناخ البحث العلمي في مجتمعنا المعاصر ، ويركز علي ثلاث قضايا هي البحث العلمي ومجتمع المعلومات ، والعولمة وتدويل النشاط البحثي ، والفجوة العلمية والتكنولوجية بين الدول المتقدمة والدول النامية. ويشتمل هذا الفصل علي بعض المؤشرات المقارنة الخاصة بالإنفاق علي النشاط العلمي ، وعدد العلماء والباحثين، ومقومات الاتصالات بعيدة المدى. ويتناول الفصل الثاني دور الجامعات في البحث العلمي ، والهيكل المؤسساتي للبحث العلمي ، والإطار التنظيمي في الجامعات المصرية ، والاتجاهات الحديثة للبحث العلمي في الجامعات . ويعالج الفصل الثالث الرؤية والأهداف وإستراتيجيات التطوير في التخطيط للبحث العلمي في الجامعات ، اعتماداً علي نتائج الوصف التحليلي للوضع الراهن من الناحيتين الكمية والكيفية . ويركز الجانب الكمي علي التمويل المحلي والأجنبي والمشترك لمشروعات البحث من عام 1974 م حتى عام 2000م ، في القطاع السلعي ، والقطاع الإنتاجي ، والقطاع الخدمي ، فضلاً عن البحوث الأساسية. أما البعد الكيفي أو النوعي فيركز علي تخطيط البحث العلمي ، واستثمار تقنيات المعلومات والاتصالات ، والمكتبات وخدمات المعلومات ، والأجهزة والمختبرات ، والتكامل بين المجالات التخصصية ، والحرية الأكاديمية ، ومناهج البحث ، ومعايير الجودة ، ومنافذ النشر ، ومدى الاستمرار في ممارسة البحث العلمي ، ومقومات تهيئة المناخ البحثي الملائم ، ومنظومة القيم العلمية ، والرؤية الإستراتيجية ، ورسالة البحث العلمي في جامعة القاهرة ، والأهداف الإستراتيجية للبحث العلمي ، والموارد البشرية ، والمقومات المادية ، والموارد المالية، والأطر المؤسساتية، والبنية المعلوماتية الأساس ، والإمكانات الإدارية والتنظيمية ، والاتجاهات العالمية في البحث العلمي ، والطلب على البحث العلمي على الصعيد الوطني والعالمي ، ومحاور الخطة البحثية الخمسية لجامعة القاهرة.
ويتناول الفصل الرابع الإطار المنهجي للخطة، ويشمل مستويات التخطيط للبحث العلمي، ومحاور خطة جامعة القاهرة، ومنظومة الخدمات البحثية ، ومراحل وخطوات وضع الخطة موضوع اهتمامنا . ويعالج الفصل الخامس المحاور السبعة لخطة جامعة القاهرة الخماسية، وهي "تدويل البحث العلمي" و"القضايا البحثية ذات البعد القومي" و"بحوث الرسائل العلمية" و "تطوير البنية المؤسسية للبحث العلمي" و"الإدارة المتكاملة للأجهزة العلمية والمختبرات" و"دعم شباب الباحثين"، و"تمويل البحوث العلمية وتسويقها". ويحتاج كل محور من هذه المحاور السبعة إلى وقفة، ونولي المحور الأول ، الخاص بتدويل البحث العلمي، قدراً من الاهتمام في هذا السياق، ونرجو أن تتاح الفرصة لبقية المحاور في أعمال لاحقة.
يذكرنا تدويل النشاط العلمي بمبدأ كانت له السيادة يوما ما، وهو أن " العلم لا وطن له ". ويعني هذا المبدأ أن المعرفة العلمية تراث إنساني مشترك، ينبغي أن يتاح للكافة بلا قيد ولا شرط . وربما يكون هذا المبدأ قد ظل صامداً حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، إذ تجلت أهمية العلم بكل جوانبه ومجالاته في غضون تلك الحرب ، كما أسهم بشكل ملحوظ في مجرياتها، على النحو الذي شجع على اتخاذ تدابير التكتم وفرض قيود السرية على نتائج بعض البحوث العلمية، وخصوصاً في المجالات التي تدعم القوة التنافسية للأطراف المتصارعة. واستمرت ممارسات التكتم والسرية هذه حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وربما تكون قد ازدادت ترسخاً في حقبة الحرب الباردة، على النحو الذي أدى إلى اقتران سباق التسلح بسباق البحث العلمي بشكل لا فكاك منه.
ولما كان الأمر كذلك فإننا لا ينبغي أن نتوقف عند حدود مقولة " العلم لا وطن له"، ونستطرد للقول بأن للعالم وطن يشرف بالانتماء إليه، ولا يدخر وسعا في خدمة مصالح هذا الوطن؛ فلكل وطن تحدياته وأولوياته التي ينبغي أن تكون لها الصدارة في استخدام العلماء لأسلحتهم المنهجية. والبحث العلمي والنشر كما نعلم صنوان، فلا غنى لأحدهما عن الآخر. والنشر هو الكفيل بمشايعة المعرفة العلمية ، إلا أن هذا النشر يخضع الآن لمعايير الانتقائية المرتبطة بالعلاقات التنافسية ، ولكل مجتمع دواعيه ومعاييره في هذا الصدد. ويمكن القول أن تدابير الحظر والتكتم قد لا تشتمل سوى قطاع محدود من نتائج البحوث العلمية، كما أن هذا الحظر غالباً ما يكون مؤقتا وإن تفاوت مداه الموضوعي والزمني، كما أنه لا يمس طبيعة النشاط العلمي بوصفة نظاماً اجتماعياً؛ فعبر منافذ النشر على اختلاف أشكالها وتفاوت مستوياتها، يتواصل الباحثون على الصعيدين الوطني والدولي، إذ تتصافح المجتمعات العلمية الوطنية وتتضافر فيما بينها لتشكل النظام العالمي. وعادة ما يتحقق هذا التكامل التفاعلي ، في الظروف السوية على نحو تلقائي، عبر قنوات التواصل العلمي الرسمية وغير الرسمية ، الوثائقية وغير الوثائقية، بما في ذلك الجامعات الافتراضية، والمؤتمرات واللقاءات والمنتديات العلمية.
ويقصد بتدويل البحث العلمي في الخطة الخمسية لجامعة القاهرة "إضفاء البعد الدولي أو متعدد الثقافات على العملية التعليمية والبحثية، بهدف الارتقاء بجودتها وتحقيق أهدافها العلمية والأكاديمية". ويرى القائمون على إعداد هذه الخطة في إضفاء البعد الدولي توجهاً يسعى للانفتاح على ثقافات بحثية متعددة، بمشاركة الأقران في الجامعات ومراكز البحوث، في المشروعات البحثية الأساسية والتطبيقية. كما يرون إن هذا التوجه يختلف عن ظاهرة العولمة، لأنه يمثل استراتيجية يتعين على الجامعات أتباعها، وهو بذلك تدويل لا يهدف إلى الربح المادي بقدر ما يهدف إلى دعم أواصر التفاعل والتكامل.
وكنا نتمنى ألا تتضمن هذه الخطة مجرد إيحاء بارتباط التدويل بالتمويل الخارجي. فنحن على قناعة بأن إضفاء البعد الدولي لا يتحقق إلا بدعم القدرات الذاتية الوطنية، البشرية والمالية والتقنية، على النحو الذي يكفل الندية في التعامل الدولي. لماذا لا يكون الارتفاع بمستوى الأداء في البحث العلمي، والاقتراب بالبحث العلمي إلى حدود التمويل الذاتي من بين أهدافنا الإستراتيجية؟ تستند الخطة الخمسية لجامعة القاهرة ، في اتجاهها نحو تدويل البحث العلمي ، إلى ما أوصت به اليونسكو ، في مؤتمرها العام الذي عقد عام 1998 ، وليس من بين أبعاد التدويل فيما أشارت به اليونسكو ، ما يتصل بتمويل البحث العلمي ، في حين تشير وثيقة خطة جامعة القاهرة إلى مؤسسات التمويل الإقليمية و الدولية ، كما تقدم من البيانات الإحصائية ما يدل على ارتفاع نسبة التمويل الأجنبي للبحث العلمي من حوالي 36.6% في الأعوام من 1974 إلى 1980م ، إلى حوالي 60.6% في الأعوام من 2001 إلى 2005م. ويرجع القائمون على وضع هذه الخطة هذه الزيادة في نسبة التمويل الأجنبي إلى المشروعات البحثية المشتركة، والاتفاقات العلمية والثقافية التي أبرمتها جامعة القاهرة من جامعات مناظرة. كما تسجل هذه الوثيقة "أن الاستفادة من هذه الفرص التمويلية المتاحة تتطلب إعداد مقترحات بحثية معقدة وفق توجهات بحثية تحددها جهات التمويل" (ص 152 من مجلد "الإطار العام"). ترى ، هل يمكن لتلك التوجهات أن تتوافق دائما مع الأولويات والتحديات المصرية؟ ألا يدعو ذلك للمراجعة المنهجية لتداعيات التمويل الأجنبي وانعكاساته على النشاط العلمي في مصر ، وخصوصا فيما يتعلق بقيم هذا النشاط وأخلاقياته ، وسلوك الباحثين واتجاهاتهم ، وقدرتهم على المبادرة ، وارتباط الجهود العلمية بالأولويات المصرية؟ إن هناك شروطا ينبغي أن تتوافر في توجهات البحث العلمي لكي يحقق أهدافه في دعم مقومات التنمية الاجتماعية والاقتصادية . هل يمكن لهذه الشروط أن تتوافر في ظل طغيان التمويل الخارجي؟
وفضلا عما سبق ، يشتمل المجلد الخاص بالإطار العام لخطة جامعة القاهرة الخمسية للبحث العلمي ، على ملحقين ، يشتمل أولهما على استمارة تجميع بيانات تقييم الوضع الراهن للبحث العلمي في جامعة القاهرة ، بينما يشتمل الملحق الثاني على نتائج التحليل النوعي للنشاط العلمي بجامعة القاهرة في الوقت الراهن . ويشمل هذا التحليل إدارة النشاط العلمي وتنظيمه ، واستخدام تقنيات المعلومات والاتصالات ، والمكتبات وخدمات المعلومات ، والأجهزة العلمية والمستلزمات البحثية ، ومستويات التضافر وتكامل الجهود ، وحرية البحث ، ومناهج البحث ومعايير الجودة ، والنشر ، والاستمرارية في ممارسة النشاط العلمي ، وسبل تحسين المناخ العلمي ، والأهمية النسبية لمصادر المعلومات، ومدى توافر الخدمات المعاونة في غير أوقات العمل الرسمية. ولنا بعض الملاحظات على الأداء المنهجي في هذا الملحق ، تتعلق باتساع مدى تنوع القضايا والموضوعات ، وحجم العينات ، ومستوى التحليل وأساليبه . ففي كثير من قضايا هذا الملحق مجال لاستخدام أساليب قياسات النشاط العلمي Scientometrics بوجه عام ، والقياسات الورقية Bibliometrics على وجه الخصوص الأمر الذي يتطلب الاعتماد على عينات من حجم مناسب يكفل التحقيق من الفروق الدقيقة ، واستخلاص النتائج التي يمكن الاعتداد بها.
وختاماً ، نحن مع هذه الوثيقة إزاء خطة منهجية ، توافرت لها مقومات التميز ، واستغرق إعدادها الآلاف من ساعات العمل على اختلاف المستويات الموضوعية والتحريرية والفنية للفئات المشاركة . ونرجو أن تحظى هذه الوثيقة باهتمام الأوساط العلمية ، كما نرجو أن نرى أثرها على أرض الواقع في التنفيذ الفعلي. كما نرجو أيضا أن تستثمر الخبرات المكتسبة في وضع هذه الخطة وتنفيذها ، في الارتفاع بمستوى الأداء في التخطيط للبحث العلمي على الصعيدين الوطني والمؤسساتي والقطاعي، والله تعالى وراء القصد ، وهو سبحانه الهادي إلى سواء السبيل .
للاستشهاد المرجعي:
حشمت قاسم. البحث البحث العلمي بين التخطيط والتنفيذ ؛ قراءة في خطة جامعة القاهرة الخمسية للبحث العلمي. دراسات عربية في المكتبات وعلم المعلومات. مج12، ع2 (مايو 2007). ص ص 7-15. متاحة على:
http://arab-librarians.blogspot.com/2008/05/blog-post_56.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق