٢٤ صفر ١٤٢٩ هـ

هل من الضروري أن نتعلم الإنجليزية حتي نعايش العصر ؟

هل من الضروري أن نتعلم الإنجليزية حتي نعايش العصر ؟
بقلم جمال البنا بمناسبة عقد "مؤتمر منظمة اللغة وتعريب العلوم» بالقاهرة كانت الأغنية القديمة تقول «الأرض بتتكلم عربي»، ولكن الأرض اليوم لا تتكلم عربي، إنها تتكلم ـ ولا فخر ـ الإنجليزية.
ظواهر ذلك لسنا في حاجة لتأكيدها أو حتي لإعلانها، لأنها تطالعنا صباح مساء، فكل منتج وسلعة، سواء صنع في إنجلترا أو أمريكا أو حتي في غيرهما تكون كل البيانات عليه بالإنجليزية، وقد استسلم الفرنسيون الغيورون علي لغتهم في كثير من المناسبات، لعل أشهرها أن يطلق علي شركة الخطوط الفرنسية «إير فرانس» Air France ، وكل الأدوية وكل المنتجات، وكل ما يكتب عن «الكمبيوتر» كله بالإنجليزية، ولما كنا نجهل الإنجليزية ـ حتي الذين تخرجوا في الجامعات ولا يعلمون إلا لغة كسيحة محدودة ـ فإن الإمكانيات الضخمة للكمبيوتر لا يستفاد بها حتي أصبح الكمبيوتر آلة كاتبة حديثة، وامتداده بالنسبة لنا لا يزيد علي «المدونين» أو علي بعض «المواقع» العربية، وهذا لا يمثل إلا واحداً في المائة من الإمكانيات المعرفية الكمبيوترية التي لا نستفيد منها لجهلنا اللغة الإنجليزية.
ويمكن أن نقيس علي هذا عشرات الأجهزة الحديثة في الراديو والتليفزيون والكهرباء التي تسجل طريقة استخداماتها باللغة الإنجليزية، ولا نعلم منها إلا الاستخدام العادي الوحيد كما نجهل طرق صيانتها وسلامة حفظها.
تعلم اللغات ـ بصفة عامة وموضوعية ـ من المزايا التي لا تنكر، ليس فحسب لأن من علم لغة قوم أمن مكرهم، ولكن لأن من تعلم لغة قوم سيستفيد من الآفاق العديدة وسيخرج من عالمه المحدود، إلي العالم أجمع عبر اللغة الإنجليزية، لأن كل معارف العالم ترجمت إلي الإنجليزية، وقد فاقت في هذا أي لغة أخري.
وإذا كان الله تعالي قد جعلنا شعوبًا وقبائل «لتعارفوا»، فإن كل وسيلة للتعارف تصبح مطلبًا إسلاميا، ولما كان من المستحيل أن نطالب الشعوب الأخري بتعلم العربية حتي يتعارفوا لأسباب معلومة لا نري داعيا لذكرها، فعلينا نحن أن نتعلم الإنجليزية.
وفي هذا العصر، فنحن لا نبالغ إذا قلنا لو أن فردًا من الفئة التي يقولون عنها «مثقفة» لا يتقن الإنجليزية، فإنه لا يكون مستحقاً لهذا اللقب، هذا إذا لم يشترط أيضًا علمه بلغة أخري كالألمانية أو الفرنسية أو الفارسية أو الأردية، ولا أريد أن أشق فأقول الصينية واليابانية. إن العوامل العملية البحتة، والعوامل الفكرية والمعرفية توجب هذا إيجابًا.
من نافلة القول أن نقول إن التعليم في مصر فشل في مهمته فشلاً مزريا، وبوجه خاص في اللغات والمهارات الفنية، حتي ما كان منها آليا، مثل الدق علي الآلة الكاتبة، وكان أحد أساتذتنا الفرنسيين يقول إنه مستعد لتوظيف أي طالب يكتب علي الآلة الكاتبة ٨٠ كلمة في الدقيقة، ولكنه لم يجد (الطالب لا الوظائف، فالوظائف موجودة، ولكن لا أحد يقوم بها)، مع أن هذا هو المستوي الدولي العادي، وأقطع فيما يتعلق باللغة الإنجليزية أنه يوجد في هيئة التدريس الجامعية من تقل قدراته اللغوية الإنجليزية عن طالب الابتدائية أو الثانوية قديمًا عندما كانت بعض المواد تدرس بالإنجليزية، وعندما كان أساتذة اللغة الإنجليزية من الإنجليز.
في الأربعينيات من القرن الماضي كان في مصر المعهد البريطاني الذي كان يشغل مبني كبيرًا في أحد الشوارع الجانبية من شارع فؤاد، وكانت الفكرة في المعهد خدمة اللغة الإنجليزية وإشاعتها ومساعدة كل الراغبين في تعلمها، وكان يقدم خدماته من البداية الأولي حتي الحصول علي الدكتوراه، كل هذا بمبلغ زهيد لا قيمة له، كما كان له نشاط اجتماعي وفني، وكان «خلية نحل»، وأعرف أساتذة دخلوا المعهد وهم لا يجيدون القراءة والكتابة الإنجليزية وظلوا به سنوات طويلة، وساعدهم المعهد علي نيل الدكتوراه، وكان الذي فكر أصلاً في هذا المعهد وأمثاله هو المستر تشرشل الذي أراد خدمة اللغة الإنجليزية وجذب العناصر الطموحة، ولهذا كانوا ينفقون عليه بسخاء، ولكن المعهد البريطاني احترق مع حريق القاهرة، ولم يعد أبدًا، فقد تبينت بريطانيا أنه إذا كانت إقامة هذا المعهد من مصلحتها فإن حاجة المجتمعات النامية إليه أشد من مصلحتها، وعلي هذا فقد ظهر بعده أخيرًا «المجلس البريطاني» الذي يقدم «دورات» إنجليزية محدودة بتكلفة باهظة، لا تغني ولا تسمن.
وفعلت مثل هذا الجامعة الأمريكية.
إن من الضروري التوصل إلي طريقة يمكن بها ـ للنخبة المثقفة ـ أن تحكم اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة وحديثاً بحيث تستطيع أن تلاحق الركب العالمي للثقافة.
إن من أكبر عوامل تقدم المجتمع الحديث أن البحوث تتناقل في المجلات العلمية والفنية وتتلقفها بمجرد صدورها الأيدي الأوروبية والأمريكية، لأنها مكتوبة بإحدي اللغات الأوروبية التي يندر ألا يتقنها أوروبي، وبذلك يلم الباحث في إيطاليا بما وصل إليه الباحث في أمريكا، ويعلم الباحث في النرويج بما وصل إليه الباحث في فرنسا.. إلخ، ولم يعد السياق الحديث للتقدم العلمي يسمح بانتظار تأليف الكتب وطبعها، وإنما أصبحت المجلات الدورية تقوم بهذه المهمة، دع عنك الدور الأسطوري الذي يقوم به الـبريد الإلكتروني في تحقيق التواصل الفوري من أقصي الدنيا إلي أقصاها، وما في الكمبيوتر نفسه من مادة علمية هائلة تستكمل أولاً بأول.
وما لم يحسن المثقفون اللغة الإنجليزية (قراءة وكتابة وحديثاً)، فلن يفتح الباب أمام التقدم المنشود.
قد يقال هل معني هذا أن يكون علي الشعب كله أن يتعلم الإنجليزية.
نقول: كلا .. إن إحكام اللغات هو مسؤولية القلة المثقفة، أما مسؤولية الشعوب فتقوم بها (الترجمة).
وكل من يراجع نهضات الأمم يلحظ أن هذه النهضة سبقتها حركة ترجمة كبري، والغريب أن مجتمعنا الإسلامي كان هو الرائد في هذا عندما ترجم الآداب والفلسفة اليونانية في عصر المأمون.
وعن هذه الترجمات التي قام بها المجتمع الإسلامي العباسي وكانت من أسباب نشاطه الفكري، ترجمت أوروبا عندما بدأت نهضتها إلي اللغة اللاتينية ما ترجمه العرب، وكان يمكن أن يندثر لولاها، وكانت حركة الترجمة هذه رائدة عهد النهضة في أوروبا التي بعد أن أخذت البداية من الترجمات العربية انهالت علي ما لدي اليونان والرومان بالترجمة.
وعندما بدأ محمد علي إقامة الدولة الحديثة في مصر فإنه أرسل البعثات المتوالية إلي فرنسا، حيث أحكم المبعوثون اللغة، ولما عادوا شغلوا المناصب التي لولا ما حصلوا عليه من علم ما كان يمكن أن يقوموا بها، كما عكف لفيف آخر منهم علي ترجمة الكتب وفي هذا المجال ظهر الشيخ (رفاعة الطهطاوي) الذي أوفد مع إحدي البعثات ـ لا كفرد منها ولكن كمؤذن وإمام لهم ــ وظهر أنه أنبغهم، ولما عادوا إلي مصر أسس مدرسة الألسن التي كانت الأساس في ترجمة عدد ضخم من الكتب.
علي أن تجربة محمد علي لا تعد شيئاً مذكورًا أمام تجربة اليابان، لأن الإمبراطور ميجي لم يكن مثل محمد علي عسكريا غريبًا عن الشعب، ولكنه كان يمثل الوطنية اليابانية، ولهذا قام بأكبر حركة للترجمة في عصره وترجمت إلي اليابانية كل مراجع وأصول العلوم والصناعة وعلي هذه القاعدة قامت نهضة اليابان.
وأكبر من تجربة اليابان ما قام به لينين عندما أراد أن ينقل الفلاح الروسي المغلق «الموجيك» إلي آفاق الثقافة الحديثة فإنه قام بأكبر حركة ترجمة وأشرف عليها بنفسه، وشملت كل التخصصات وخصص لها الملايين من الروبلات، كما استقدم أعدادًا كبيرة من الخبراء بعضهم كان من أمريكا، وبفضل هذه الحركة للترجمة أصبحت كل العلوم والفنون ميسرة باللغة الروسية أمام كل النابغين من عامة الشعب.
في عهد عبدالناصر، وعلي هامش الاهتمامات بالدعاوي العريضة عن الاشتراكية والقومية العربية.. الخ، عنيت الحكومة شيئاً ما بإصدار الكتب وقامت الدار القومية التي كانت تطبع كل تسع ساعات، وفي رواية كل ست ساعات، كتابًا، وقد أسهمنا في هذه الانفتاحة الثقافية عندما نشرت لنا الدار القومية عشرة كتب من التي ترجمناها عن الإنجليزية عن النقابات في مختلف دول العالم وكتبا أخري عن التنظيم النقابي والديمقراطية ما كان لدار نشر أخري أن تطبعها.
ولكن الحركة كانت علي هامش الهامش، وتدهورت سريعًا في غيابات الديكتاتورية.
ونسمع عن ترجمة في سلسلة «الألف الأولي» والبدء في ترجمة «الألف الثانية» دون أن تحظي هذه الكتب بتوزيع شعبي، فإذا كانوا يطبعون من كل كتاب ألفاً أو ألفين، فعادة ما تستأثر بها بعض المكتبات لرخص ثمنها فتصدرها أو تبقيها عندها حيناً ثم ترفع سعرها.
وأنا، وصناعتي الكتابة والتأليف، لا أعلم شيئاً عن هذه الآلاف المترجمة، شأنها شأن المراكز والمعاهد المتخصصة التي تعمل وتودع في الأدراج ما تعمل، فكأنها لم تعمل.
ومن أمثلة ذلك أن هناك مؤتمرًا عن منظومة اللغة وتعريب العلوم سيعقد في القاهرة يوم ٢٠ ـ ٢١ فبراير، فكم واحداً يعلم به؟ وكم واحداً سيشارك فيه؟
وعلي عكس ما يشاع، فإن الترجمة الصحيحة صعبة جدًا والترجمة الأمينة تكاد أن تكون ممتنعة، ولهذا قيل إن المترجم «خائن»، ولكننا لم نعد نبحث عن الجودة، فهذا مطلب عزيز، ولكن مجرد الوجود بالكثرة التي تتيح لها الإشاعة الشعبية.
إن إشاعة الترجمات بالنسبة للشعب، هي كإحكام اللغات بالنسبة للنخبة، شرط رئيسي للتقدم، ومن الإنصاف أن نشير إلي مجلة «العربي» الكويتية، وما تقوم به، وكذلك الحركة التي تترأسها حرم الرئيس ونجحت في إصدار عدد كبير من الكتب بأثمان زهيدة، وآمل أن تواصل ذلك، فهذا ما سيبقي لها عندما تنحسر الأضواء، فضلاً عن أن بعض المجلات كـ «القاهرة» توزع مع بعض أعدادها كتيبًا ثقافيا، ولكن هذه المحاولات القليلة والمتناثرة لا يمكن رغم آثارها الحميدة أن ترتقي إلي مستوي «ثورة المعرفة عبر الترجمة» تماثل ما قام في اليابان وفي الاتحاد السوفيتي.
المصري اليوم، ٢٠/٢/٢٠٠٨

ليست هناك تعليقات: