عظمة العلم.. وتواضع العلماء
بقلم : د. ليلي تكلا لم يكن فوز الفريق القومي لكرة القدم ببطولة إفريقيا مصدر الاعتزاز الوحيد الذي عايشناه في الفترة الأخيرة, فقد كانت لنا فرصة أثلجت القلوب هي الاستماع إلي علماء مصر وهم يشاركون في شرح ظواهر كونية تهدد العالم ووسائل التصدي لها, مما غمرنا بإحساس جميل بالتقدير والفخر وحب مصر.
كان ذلك في اجتماع الجمعية المركزية للحفاظ علي البيئة الذي خصص لعرض فيلم آل جور الحقيقة المزعجة الذي حصل علي جائزة أوسكار, ومنح صاحبه جائزة نوبل, يعرض فيه قضية الاحتباس الحراري, وهي في مقدمة المشكلات البيئية, كرس لها آل جور حياته عقب إسقاطه في انتخابات الرئاسة الأمريكية, وتبني رسالة علمية إنسانية هي أكثر نبلا من الرئاسة.
***
لقد مرت البشرية في رحلة طويلة إلي أن وصلت مرحلة القوة فيها للعلم والمعرفة. كان الهدف الأول للإنسان الحصول علي الغذاء النباتي أو الحيواني, وكان تفوقه في هذا المضمار يتوقف علي أمرين: شجاعة وإقدام, وسلاح تباينت أشكاله, يحصل به علي فريسته, ويهاجم به عدوه, ويدافع عن نفسه.
ظل السلاح لفترة طويلة وسيلة التفوق علي الآخرين, واستمر قرونا معيار التقدم والارتقاء, تغيرت أشكاله ومكوناته من أخشاب إلي معادن, ومن الرماح إلي البندقية والمدفع, ثم جاءت القنبلة والطائرة والدبابة والغواصة, قائمة طويلة دأب يدخل عليها تعديلات وصلت بها إلي آفاق مذهلة, ومدمرة.
لم تنته أسطورة الغلبة لمن له السلاح إلي اليوم, إلا أنها لم تعد تنفرد بالساحة, ظهرت القوة الاقتصادية التي يمكن أن تغزو وتدمر ويمكن أن تبني أو تهدم, وأصبحت أدوات الصراع الدولار والفرنك والمارك, تتنافس في غزو اقتصادي انحسرت به قليلا غلبة القوة البدنية أو العسكرية, ثم جاء الغزو الثقافي الذي يحتل العقول, وهو أسلوب يقوم علي خبث شديد, فالثقافة هي التي تحدد السلوك ومسار القرارات, ويمكن من خلال غرس قيم ثقافية معينة ونشرها في المجتمع التأثير علي شكل ذلك المجتمع أو السيطرة عليه, أصبح هناك من يمسكون بخيوط يحركون بها المجتمعات عن بعد للتحكم في سلوكهم أسوة بالمهرج أو الساحر الذي يحرك الدمي والتماثيل كيفما يشاء من وراء الستار.
هذه الغزوات الثقافية صاحبها نشر نظريات وأقاويل توجه فكر الإنسان وجهة معينة, تجاه قبلة الغرب وثقافته المادية الرأسمالية الفردية الأنانية, ولكن كما يرفض الجسم أحيانا مواد أو أعضاء دخيلة عليه لا تتفق مع تركيبته ونظم حركته, فإن العقول أيضا ترفض ما يفرض عليها ويتجه العقل الناضج للبحث عن الحقيقة والمعرفة والعلم, ذلك العلم الذي يقوم علي علاقة السببية بين الفعل أو الحدث, وما ينتظر له من نتائج.
والعلم بحور عميقة, له شواطئ ومراس لكن لا يمكن احتواؤه برمته, تهمس أمواجه بما تحتوي ثم ترتد إليه, ليصبح كاملا متكاملا.
إن البحث عنه والوصول إليه واكتشافه لا يقدم عليه إلا عقول اكتملت, وقلوب تهفو للخير, وإرادة لا تلين, لا تمل ولا تهدأ إلا بالوصول إلي الحقائق, ثم تعاود مسيرتها بحثا عن كل جديد.
هذا هو العلم الذي أصبح اليوم يحدد مسيرة البشر. العلم الذي يقوم علي البحث والمعرفة, ويهدف لاستثمار ما يصل إليه من أجل خير البشرية, القائمون عليه هم العلماء الذين لا يدعون المعرفة, لذلك يبحثون عنها ويدركون تماما أن ما يعرفونه ليس سوي قطرة في محيط فلا يصابون بداء التعالي أو الاهتمام بالذات الذي يصيب عادة من لا يعرفون لكنهم لا يفقهون أنهم لا يعرفون.
العلماء يدركون أن المعرفة لا تنتهي, وأن خبايا الكون لا يمكن الإدراك الكامل بها, يقفون أمامها في تواضع.
أديسون الذي بهر عصره باكتشافاته العلمية وهو مازال صغيرا له1300 اكتشاف مسجل كان يرفض رفضا قاطعا أن يطلق عليه أحد لقب عبقري, ومدام كوري التي حصلت علي جائزة نوبل مرة مع زوجها ومرة بمفردها, كما حصلت عليها ابنتها, كرست اكتشافها للعلاج ورفضت أن يسجل باسمها, مؤكدة أن الراديوم ملك العالم كله ليس لفرد أن ينفرد به.
هذا التواضع وتلك البساطة نلمسهما في علمائنا طلبة والقصاص, مصطفي طلبة الذي نظم للعالم أول مؤتمراته الدولية حول البيئة في ريو, وهو الاجتماع الذي بدأت به قضايا الكون منعطفا مهما, وقال عنه رئيس البرازيل: إن وراء نجاح المؤتمر مصريين هما بطرس غالي ومصطفي طلبة.
أما القصاص فقد سمعت عنه عشرات المرات قبل أن ألقاه, فمنذ بدأ اهتمامي بقضايا البيئة شاركت في بعض اجتماعاتها الدولية, في كل مرة كان المشاركون يقولون: أنت من مصر. بلد القصاص؟ ويتحدثون عنه بإعجاب شديد, تصورته أستاذا ضخما يدخن الغليون, وينفث الدخان في عظمة, ثم قابلته وجدته عظيما بالفعل في بساطته, وتواضعه, يتحدث بلا تكلف, لا يستعمل الألفاظ العلمية الكبيرة, إنما يشرح للمستمع القضايا المعقدة بصورة سلسة, يرفض الجلوس في الصفوف الأمامية, يركب التاكسي ويحمل علي كتفه حقيبة أوراقه, جعل لكلية العلوم بجامعة القاهرة مكانة دولية رفيعة مرموقة.
استمعنا إليهما وهما يتحدثان عن الظواهر الكونية التي تهدد العالم وتهدد مصر تداعياتها بالنسبة لنا, ماذا يفعل العالم لمواجهتها؟ وماذا يمكن أن نفعل نحن؟
تكلما في بساطة وتواضع ودراية ومعرفة وشعور وطني صادق لا يهدف إلا المصلحة العامة للإنسان والمواطن, ولو كان العالم استمع لعلمائه لأمكن تحاشي الكثير من المآسي التي يعانيها اليوم.
***
لقد نجح فريق كرة القدم في تحقيق هدف قومي نسعى إليه جميعا, نجح23 شخصا في توحيد72 مليونا, وهذا جميل, لكن علماء مصر هم الذين سوف يفتحون لهؤلاء الملايين آفاق المستقبل, بهم يمكن أن تتحرك مصر نحو حياة العصر.. هؤلاء العلماء أين مكانهم في مصر؟ وأين مصر منهم؟
وللحديث بقية...
الأهرام، 11/3/2008
كان ذلك في اجتماع الجمعية المركزية للحفاظ علي البيئة الذي خصص لعرض فيلم آل جور الحقيقة المزعجة الذي حصل علي جائزة أوسكار, ومنح صاحبه جائزة نوبل, يعرض فيه قضية الاحتباس الحراري, وهي في مقدمة المشكلات البيئية, كرس لها آل جور حياته عقب إسقاطه في انتخابات الرئاسة الأمريكية, وتبني رسالة علمية إنسانية هي أكثر نبلا من الرئاسة.
***
لقد مرت البشرية في رحلة طويلة إلي أن وصلت مرحلة القوة فيها للعلم والمعرفة. كان الهدف الأول للإنسان الحصول علي الغذاء النباتي أو الحيواني, وكان تفوقه في هذا المضمار يتوقف علي أمرين: شجاعة وإقدام, وسلاح تباينت أشكاله, يحصل به علي فريسته, ويهاجم به عدوه, ويدافع عن نفسه.
ظل السلاح لفترة طويلة وسيلة التفوق علي الآخرين, واستمر قرونا معيار التقدم والارتقاء, تغيرت أشكاله ومكوناته من أخشاب إلي معادن, ومن الرماح إلي البندقية والمدفع, ثم جاءت القنبلة والطائرة والدبابة والغواصة, قائمة طويلة دأب يدخل عليها تعديلات وصلت بها إلي آفاق مذهلة, ومدمرة.
لم تنته أسطورة الغلبة لمن له السلاح إلي اليوم, إلا أنها لم تعد تنفرد بالساحة, ظهرت القوة الاقتصادية التي يمكن أن تغزو وتدمر ويمكن أن تبني أو تهدم, وأصبحت أدوات الصراع الدولار والفرنك والمارك, تتنافس في غزو اقتصادي انحسرت به قليلا غلبة القوة البدنية أو العسكرية, ثم جاء الغزو الثقافي الذي يحتل العقول, وهو أسلوب يقوم علي خبث شديد, فالثقافة هي التي تحدد السلوك ومسار القرارات, ويمكن من خلال غرس قيم ثقافية معينة ونشرها في المجتمع التأثير علي شكل ذلك المجتمع أو السيطرة عليه, أصبح هناك من يمسكون بخيوط يحركون بها المجتمعات عن بعد للتحكم في سلوكهم أسوة بالمهرج أو الساحر الذي يحرك الدمي والتماثيل كيفما يشاء من وراء الستار.
هذه الغزوات الثقافية صاحبها نشر نظريات وأقاويل توجه فكر الإنسان وجهة معينة, تجاه قبلة الغرب وثقافته المادية الرأسمالية الفردية الأنانية, ولكن كما يرفض الجسم أحيانا مواد أو أعضاء دخيلة عليه لا تتفق مع تركيبته ونظم حركته, فإن العقول أيضا ترفض ما يفرض عليها ويتجه العقل الناضج للبحث عن الحقيقة والمعرفة والعلم, ذلك العلم الذي يقوم علي علاقة السببية بين الفعل أو الحدث, وما ينتظر له من نتائج.
والعلم بحور عميقة, له شواطئ ومراس لكن لا يمكن احتواؤه برمته, تهمس أمواجه بما تحتوي ثم ترتد إليه, ليصبح كاملا متكاملا.
إن البحث عنه والوصول إليه واكتشافه لا يقدم عليه إلا عقول اكتملت, وقلوب تهفو للخير, وإرادة لا تلين, لا تمل ولا تهدأ إلا بالوصول إلي الحقائق, ثم تعاود مسيرتها بحثا عن كل جديد.
هذا هو العلم الذي أصبح اليوم يحدد مسيرة البشر. العلم الذي يقوم علي البحث والمعرفة, ويهدف لاستثمار ما يصل إليه من أجل خير البشرية, القائمون عليه هم العلماء الذين لا يدعون المعرفة, لذلك يبحثون عنها ويدركون تماما أن ما يعرفونه ليس سوي قطرة في محيط فلا يصابون بداء التعالي أو الاهتمام بالذات الذي يصيب عادة من لا يعرفون لكنهم لا يفقهون أنهم لا يعرفون.
العلماء يدركون أن المعرفة لا تنتهي, وأن خبايا الكون لا يمكن الإدراك الكامل بها, يقفون أمامها في تواضع.
أديسون الذي بهر عصره باكتشافاته العلمية وهو مازال صغيرا له1300 اكتشاف مسجل كان يرفض رفضا قاطعا أن يطلق عليه أحد لقب عبقري, ومدام كوري التي حصلت علي جائزة نوبل مرة مع زوجها ومرة بمفردها, كما حصلت عليها ابنتها, كرست اكتشافها للعلاج ورفضت أن يسجل باسمها, مؤكدة أن الراديوم ملك العالم كله ليس لفرد أن ينفرد به.
هذا التواضع وتلك البساطة نلمسهما في علمائنا طلبة والقصاص, مصطفي طلبة الذي نظم للعالم أول مؤتمراته الدولية حول البيئة في ريو, وهو الاجتماع الذي بدأت به قضايا الكون منعطفا مهما, وقال عنه رئيس البرازيل: إن وراء نجاح المؤتمر مصريين هما بطرس غالي ومصطفي طلبة.
أما القصاص فقد سمعت عنه عشرات المرات قبل أن ألقاه, فمنذ بدأ اهتمامي بقضايا البيئة شاركت في بعض اجتماعاتها الدولية, في كل مرة كان المشاركون يقولون: أنت من مصر. بلد القصاص؟ ويتحدثون عنه بإعجاب شديد, تصورته أستاذا ضخما يدخن الغليون, وينفث الدخان في عظمة, ثم قابلته وجدته عظيما بالفعل في بساطته, وتواضعه, يتحدث بلا تكلف, لا يستعمل الألفاظ العلمية الكبيرة, إنما يشرح للمستمع القضايا المعقدة بصورة سلسة, يرفض الجلوس في الصفوف الأمامية, يركب التاكسي ويحمل علي كتفه حقيبة أوراقه, جعل لكلية العلوم بجامعة القاهرة مكانة دولية رفيعة مرموقة.
استمعنا إليهما وهما يتحدثان عن الظواهر الكونية التي تهدد العالم وتهدد مصر تداعياتها بالنسبة لنا, ماذا يفعل العالم لمواجهتها؟ وماذا يمكن أن نفعل نحن؟
تكلما في بساطة وتواضع ودراية ومعرفة وشعور وطني صادق لا يهدف إلا المصلحة العامة للإنسان والمواطن, ولو كان العالم استمع لعلمائه لأمكن تحاشي الكثير من المآسي التي يعانيها اليوم.
***
لقد نجح فريق كرة القدم في تحقيق هدف قومي نسعى إليه جميعا, نجح23 شخصا في توحيد72 مليونا, وهذا جميل, لكن علماء مصر هم الذين سوف يفتحون لهؤلاء الملايين آفاق المستقبل, بهم يمكن أن تتحرك مصر نحو حياة العصر.. هؤلاء العلماء أين مكانهم في مصر؟ وأين مصر منهم؟
وللحديث بقية...
الأهرام، 11/3/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق