عودة المكتبات ومكتبة الأسرة تعيد رسم خريطة القراءة في مصر
المتابع لسوق القراءة في مصر يستطيع أن يرصد تحولات مهمة في العامين الماضيين, وإذا كان علي السطح منها حفلات توقيع الإصدارات الجديدة, فإن العمق يحمل تيارات ساخنة شكلت في مجملها انتفاضة قراءة لاحظها كثير من أصحاب دور النشر والمؤلفين ومسئولين في المكتبات. يشمل ذلك القراءة بشكلها التقليدي والقراءة علي شبكة الإنترنت.. ربما تجاوزنا في البداية أزمة النشر, وعاد من النادر أن يفشل كاتب في نشر مؤلفه, إذ بشكل أو بآخر يستطيع أن يجد ناشرا حكوميا أو خاصا, أو حتى يساهم في جزء من تكاليف الطباعة, كما أنه من الواضح أننا تجاوزنا مسألة أسعار الكتاب التي شكونا منها كثيرا, فالكتاب الآن لا يقل ثمنه عن عشرين جنيها, وأصبح سعر رواية في السوق من القطع المتوسط من30 إلي40 جنيها, ورغم ذلك تنفذ طبعاتها المتتالية ولا يتذمر أحد.
ربما ساعد في ذلك مهرجان القراءة للجميع ثم مكتبة الأسرة بروافدها المتعددة, وانتشار النت, مع بروز جيل جديد من خريجي الجامعات والمعاهد لهم في الغالب صلة بالوسائط الثقافية والإعلامية, وكذلك مع انتشار المدونات, حتي أن بعض هذه المدونات وجدت من يصدرها في كتب مثل مشروع' مدونة' عن دار الشروق. وهذه بوادر فقط وليس ربيعا أدبيا دائما للمؤلفين والناشرين والقراء, ولكننا رصدناها:
فالأديب إبراهيم أصلان يلاحظ مؤشرات علي انتعاش القراءة, دور النشر في ازدياد, وكذلك أعداد المكتبات, خصوصا أنه جاء علينا وقت اختفت فيه مكتبات لصالح محلات أحذية, والآن نجد المكتبات تفتح وفي أماكن راقية, وهذا معناه رواج توزيع الكتاب, تتعرف عليك أجيال جديدة من الشباب في الشارع, وفي المعارض تجد من يشتري كتابك ويتقدم منك طالبا التوقيع, وحفلات التوقيع بدور النشر, ولهذا دلالات أقلها أن هناك قراء. أما الأعمال فإنها تطبع أكثر من مرة وفي فترات متقاربة, وأشير هنا إلي آخر أعمالي' خلوة الغلبان', ويعتقد أصلان أن الأجيال الجديدة تمر بمرحلة بحث عن مرفأ, هم يتعاملون مع الكمبيوتر, وهو وسيلة تواصل ضخمة, تسبب اندفاعا في الوعي, والتفاتا إلي أهمية القراءة كمطلب إنساني واجتماعي, يضفي قيمة, هذا أحدث رواجا في عملية القراءة, ويمثل دعوة لدور النشر لاعتماد الأسس العلمية لدراسة توجهات القراء.
ولكن الروائي محمد البساطي يختلف مع أصلان ويتحدث عن زمن القراءة الخفيفة, ويقول إن دور النشر تبحث عن نوعية من الكتب الأكثر توزيعا وتطلب كتابات معينة ليست جادة في مجملها, ولديها المبرر فجمهور الكتابة الجادة قليل في مصر ولا يطبع الكتاب الجاد أكثر من خمسمائة نسخة, بينما تجد الطبعة الرابعة أو الخامسة من الكتابات المسلية, وهذا مؤشر لبيع الكتب ولكنه لا يؤسس ثقافة جادة, فمن يقرأ الآن لتشيكوف وهيمنجواي وماركيز, العدد ينكمش, وهذا الأمر مرتبط بالظروف الحياتية للمواطن المصري, فمتى يقرأ وكيف؟.
أما توزيع الكتاب الآن فإنه في رأي الشاعر محمد سليمان: لا يقارن بسنوات سابقة حيث كان التوزيع أكثر, والآن فإنها بضع مئات من النسخ فقط تباع, وتوزيع الكتاب الشعري أو الروائي عموما بالغ الضآلة, ويقول سليمان: الناشر يطبع الآن من الكتاب من خمسمائة إلي ألف نسخة، تقريبا نكتب لأنفسنا, نحن نشكو منذ فترة طويلة من مسألة انحسار القراءة, وشارع الفجالة تحول إلي بيع السيراميك بعد أن كان مزدحما بالمكتبات ودور نشر كثيرة أفلست. لا نستطيع ادعاء رواج للنشر والقراءة, والفجوة تتسع بين المثقف وجمهوره ومن الطبيعي أن نجد اختفاء أو موت القارئ, وأجهزة التعليم لا تصنع القارئ وتوقفت عن هذه المهمة منذ أكثر من ثلاثين عاما.
أما الدكتور محمد صابر عرب رئيس دار الكتب المصرية فينبه إلي أن مفهوم القراءة الذي نعرفه قبل عقود تغير, بعد أن أصبحت القراءة علي شبكة الإنترنت إحدي الوسائل, بمعني أن التردد علي المكتبة العامة ليس المعيار الوحيد لرواج القراءة, كما اتيحت وسائل كثيرة للاقتناء مثل مكتبة الأسرة. ويرصد الدكتور عرب معدلات الاطلاع بقاعات دار الكتب, حيث تردد علي الدار50 ألف و256 باحثا خلال العام2007 بمعدل159 باحثا يوميا, تداولوا300 ألف وعاء ما بين كتاب ودورية ووسائط. أما الإحصائية الرسمية لعدد الكتب( المودعة قانونا) فهي11 ألفا و328 كتابا لعام2004, و13 ألفا429 كتابا لعام2005, و12 و400 كتاب لعام.2007ومن منظور آخر فإن مكتبة الأسكندرية تستقبل800 ألف زائر سنويا وهي وضعت قدما لها في سوق النشر. ويقول د. خالد عزب مدير الإعلام بالمكتبة إن تطورا إيجابيا حدث في الفترة الأخيرة, يقف وراءه التليفزيون وحملات التوعية وأنماط التعليم, وكذلك الإنترنت. وعكس ما كان متوقعا من أن النشر الإلكتروني سيضر بحركة بيع الكتاب, فإن القراءة علي النت دفعت الكثيرين إلي شراء الكتب, ولكن دور النشر لا تعلن عن الأرقام الحقيقية للطبع أو البيع. وأكد عزب أن هناك رواجا في القراءة في مصر في السنوات الأخيرة, وتعدت كتب الأدباء في الفترة الأخيرة الخمسة والعشرة آلاف نسخة. وعن حال البيع لإصدارات مكتبة الاسكندرية قال إن الطبعة الثانية من كتاب' تاريخ الكتابة' وثمنه2500 جنيها علي وشك النفاذ( الطبعة ألف نسخة), وكتاب' مع ابن خلدون في رحلته' باعت طبعته الشعبية16 ألف نسخة( ثمن النسخة10 جنيهات) وباعت طبعته الفاخرة ألف نسخة(100 جنيها) في أقل من سنة.
ويشير إبراهيم المعلم رئيس اتحاد الناشرين المصريين إلي قصور وغياب ثقافة الإحصاء, ونفي أن يكون ذلك مسئولية اتحاد الناشرين(460 ناشرا) الذي يعمل علي الارتقاء بالمهنة واحترام قواعد النشر والملكية الفكرية, وقال إن الجهات شبه الحكومية تعلن أرقاما غير مدروسة وأحيانا متناقضة, تعطي في النهاية إشارات خاطئة. ويؤكد أن هناك تغيرا واضحا في خريطة النشر والقراءة بما في ذلك نوعية الكتب وعدد العناوين الصادرة, ويرصد ذلك في نهضة وتحسن في المستوي والنوع والانفتاح في كتب الأطفال, فعدد كتب الأطفال الصادرة في السنوات الثلاث الماضية أكثر من كل العقود السابقة, وأن أحد الاسباب في تشجيع ذلك هو مشروع البرنامج القومي للكتاب( تقوم بالإشراف عليه جمعية الرعاية المتكاملة, وزارة التعليم, والمعونة الأمريكية), ولأول مرة تصل أعداد من كتب الأطفال لجميع المدارس المصرية (39 ألف مدرسة).
يقول المعلم إن هناك نوعية من المكتبات الجديدة صديقة القارئ مثل الشروق والديوان وكتب خانة والبلد وغيرها, جذبت شرائح جديدة من القراء فساعدت في بداية حل لمشكلة وطريقة عرض الكتاب بطريقة جذابة وصديقة للقاريء, حتي في المعارض وجدنا شرائح جديدة تدخل للقراءة وأجيال من الشباب, وتهتم أكثر بالكتب الأدبية والسير الذاتية وبمؤلفات الكتاب المتميزين من القدماء والجدد علي حد سواء.. هو رواج نسبي يصر عليه إبراهيم المعلم ويقول إنه للحفاظ عليه وتعظيمه لابد من أمرين, الأول: أن يكون لدي المكتبات العامة والمدرسية والجامعية ميزانية اقتناء محترمة, والثاني: تحسين الكتاب المدرسي وتعديل المناهج بديلا عن الحفظ والتلقين والرأي الواحد, بحيث تكون جذابة وليست اداة تعذيب.
الأهرام 16/3/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق