الكتاب.. المعرض الدائم
بقلــم: د. يوسف نوفـل
يكمن لب الحضارات, والثقافات, والنهضات, والتعليم, والاختراع, والتقدم.....
بل تكمن حياة البشر... في...: الكتاب. وليس غريبا أن يقدم: المؤلفان: لوسيان فافر, وهنري جان مارتان, اللذان أرخا للكتاب في كتابهما (ظهور الكتاب) هذا التعريف بالكتاب وتاريخه وأهميته في أوجز عبارة هي (الكتاب هذا الكائن الغريب الذي هو النص المكتوب في خدمة التاريخ). ومن قبلهما أفاض الأسلاف العرب في صفات الكتاب وفضله وفائدته وسهولة مصاحبته, والتعامل معه, فقال الجاحظ: الكتاب صامت ما أسكته, وبليغ ما استنطقته...., ثم وصفه بصفات:... مسامر.... وجليس....ورفيق. وقال محيي الدين بن عربي: مارأيت بستانا يحمل في كم, وروضة تنقل في حجر, ينطق عن الموتى , ويترجم عن الأحياء مثل الكتاب..., ثم وصفه بصفات: مؤنس... وصاحب السر... وجار.... وخليل...... ورفيق... ومعلم.... وصاحب.....
وبرغم التقدم الهائل في وسائل الاتصال, وانتشار نوافذ الكتاب والنشر الإلكتروني في صوره العديدة, فإن الكتاب ـ في صورته الورقية ـ لا يزال في منزلته من الثقافة والمعرفة, ولا يزال يطل علينا في احتفاليات مهيبة, ومظاهر عديدة لعل أبرزها معارض الكتاب الموسمية والسنوية, ومنها ما تشهده مصر والعالم العربي من إقامة المعارض تباعا واتصالا, ولاشك أن فوائد هذه التظاهرات ليست محل جدال؛ بل هي ـ بالقطع ـ مؤكدة. يجاورها ـ جنبا إلي جنب, بل ينافسها ـ شبح مخيف, ألا وهو الارتفاع الهائل في أسعار الكتاب, لأسباب لا محل لمناقشتها هنا, وإنما المهم أن نفكر, معا, كيف ننمي رغبة القراءة, والحرص علي اقتناء الكتاب لدي الأجيال الناشئة التي بعدت المسافة بينها وبينه, لأسباب عديدة لا محل لمناقشتها هنا, أيضا؟.
كيف نجني من وراء إقامة معرض للكتاب استثارة تحمس عدد من الشباب والشابات لتكوين مكتبة منزلية فردية, أو جماعية بإسهام وتسهيل من هيئات المعارض, وجهاز مكتبة الأسرة, والهيئة العامة للكتاب, والهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية, والهيئة العامة لقصور الثقافة, والنوادي النوعية كنادي القصة, والاتحادات النوعية كاتحاد كتاب مصر. واتحاد الكتاب العرب, واتحاد الناشرين الذي يضم دور النشر: في القطاع العام والخاص علي حد سواء..... إلخ.
لقد شهد التاريخ العربي مثل ذلك التحمس الذي أثمر ثماره, وجني فائدته فيما خلفته الحضارة العربية من أثار وإنارة في العصور الوسطي المظلمة!!!. وذلك في نمطين, أو نموذجين من المكتبات: مكتبات خاصة, وهي:مكتبات الأفراد, ومكتبات عامة وهي: مكتبات الجماعات, أو الهيئات, أو المؤسسات, أو الطوائف, أو الدولة, بوجه عام, وكلا النموذجين يفتح مصراعيه للخدمة العامة والنفع العام للناس جميعا.
علي مستوي مكتبات الأفراد عرفنا بعض الأخبار عن مكتبات أمثال: ابن شهاب الزهري, وعبد الحكم الجمحي الذي اتخذ بيتا فجعله فيه دفاتر يقرأ فيها القارئون علي نحو يشبه النادي الثقافي, ومكتبة بيت الحكمة التي أنشأها المأمون في بغداد, وشهدت حركة الترجمة والتأليف, ومكتبة علي بن يحيي النجم في قصره الجليل, وكانت تسمي خزانة الحكمة, وما أنشأه أبو القاسم جعفر بن حمدان الموصلي, واسماه دار القلم بالموصل, وما أنشأه الحاكم بأمر الله من المكتبة الملحقة بدار الحكمة, واهتمام بني عمار في طرابلس الشام بمكتباتهم, حيث جلبوا لها الكتب من أقطار شتي, والأمثلة المشابهة لا تكاد تحصي.
وعلي مستوي الجماعات: خصص الفاطميون للكتاب أربعين خزينة تتسع الواحدة منها لثمانية عشر ألف كتاب, وزاد عدد الكتب فيها علي المليونين, وما صنعه المستنصر بمكتبة مدرسته, وما أشادته الحضارة الإسلامية بالأندلس من مكتبات ومؤلفات, وقد جمع كوديرا الإسباني المكتبة الأندلسية التي ألفها المؤلفون العرب الأندلسيون, ونشرها فيما بين سنوات (1883 و1892), ونشر الإسباني دي خويه وغيره المكتبة الجغرافية العربية في ليدن بين سنوات (1871 و1894), ونشر مجمع الآثار والفنون الفرنسي مكتبة الحروب الصليبية التي ألفها المؤرخون الشرقيون, ونشرت بباريس بين سنوات (1872 و1884), ومثل ذلك ما كان في عواصم الحضارة العربية في: القاهرة, وبغداد, ودمشق, والقيروان.... إلخ, وهو حديث طويل لا يتسع له المقام, وأمثلته, أيضا, لا تكاد تحصي.
من هنا يكون من ثمار المعارض المهتمة بالكتاب, ومن مسئولية صانعي الكتاب, وناشريه, ومن المهتمين بالنفع العام, ومن دافعي الزكاة, ومن المشرفين علي شئون الكتاب بعامة ـ من مسئولية هؤلاء جميعا أن يفكروا في الصيغة الملائمة, والطرق المناسبة لتشجيع الكتاب وقارئيه, وذلك في تصور لنموذجين مستوحيين من النموذجين السابقين:
*مكتبات الأفراد, حيث ينشئها, ويتبرع بها, ويرعاها القادرون ويجعلونها سبيلا للراغبين, عساهم يسهمون في مساعدة نابغة فقير جاد, لتمكينه من الانتفاع, وإفادة المجتمع معا, كما يتبرع فيها من تقدمت بهم السن من العلماء والأدباء, فيتبرعون بمكتباتهم, ويجعلونها صدقة جارية ينتفع بها المنتفعون.
*مكتبات الهيئات والجماعات, وذلك بقيام دور النشر بطبع نسخ طبعة شعبية, تقليلا للتكاليف, ومن ثم الإسهام بها في دعم المكتبات العامة القائمة منذ نشأة دار الكتب في عصر الخديوي, أو استحداث دور عامة جديدة.
*يضاف إلي ذلك دعم خدمة الاطلاع عن طريق شبكة الاتصال العالمية, فليس في مقدور كل إنسان توفير الوسائل التي تمكنه من استثمار تلك الإمكانات الهائلة في شبكة المعلومات العالمية, وتلك ـ بلا شك ـ مهمة الدولة, وبذلك يكون للمعارض وجودها الدائم طول العام, بل طيلة اليوم كله علي مدي الساعة, وليس في موسم بعينه, استمرارا, ودعما للثقافة والحضارة والتقدم, بقدر ما هو دعم للكتاب.
الأهرام ، 5/2/2008