٥ فبراير ٢٠٠٨

الكتاب‏..‏ المعرض الدائم
بقلــم‏:‏ د‏.‏ يوسف نوفـل

يكمن لب الحضارات‏,‏ والثقافات‏,‏ والنهضات‏,‏ والتعليم‏,‏ والاختراع‏,‏ والتقدم‏.....‏
بل تكمن حياة البشر‏...‏ في‏...:‏ الكتاب‏.‏ وليس غريبا أن يقدم‏:‏ المؤلفان‏: ‏لوسيان فافر‏,‏ وهنري جان مارتان‏,‏ اللذان أرخا للكتاب في كتابهما‏ (‏ظهور الكتاب‏)‏ هذا التعريف بالكتاب وتاريخه وأهميته في أوجز عبارة هي‏ (الكتاب هذا الكائن الغريب الذي هو النص المكتوب في خدمة التاريخ‏).‏ ومن قبلهما أفاض الأسلاف العرب في صفات الكتاب وفضله وفائدته وسهولة مصاحبته‏,‏ والتعامل معه‏,‏ فقال الجاحظ‏:‏ الكتاب صامت ما أسكته‏,‏ وبليغ ما استنطقته‏....,‏ ثم وصفه بصفات‏:...‏ مسامر‏....‏ وجليس‏....‏ورفيق. وقال محيي الدين بن عربي‏:‏ مارأيت بستانا يحمل في كم‏,‏ وروضة تنقل في حجر‏,‏ ينطق عن الموتى ‏,‏ ويترجم عن الأحياء مثل الكتاب‏...,‏ ثم وصفه بصفات‏: ‏مؤنس‏...‏ وصاحب السر‏...‏ وجار‏....‏ وخليل‏......‏ ورفيق‏...‏ ومعلم‏....‏ وصاحب‏.....‏

وبرغم التقدم الهائل في وسائل الاتصال‏,‏ وانتشار نوافذ الكتاب والنشر الإلكتروني في صوره العديدة‏,‏ فإن الكتاب ـ في صورته الورقية ـ لا يزال في منزلته من الثقافة والمعرفة‏,‏ ولا يزال يطل علينا في احتفاليات مهيبة‏,‏ ومظاهر عديدة لعل أبرزها معارض الكتاب الموسمية والسنوية‏,‏ ومنها ما تشهده مصر والعالم العربي من إقامة المعارض تباعا واتصالا‏,‏ ولاشك أن فوائد هذه التظاهرات ليست محل جدال؛ بل هي ـ بالقطع ـ مؤكدة‏.‏ يجاورها ـ جنبا إلي جنب‏,‏ بل ينافسها ـ شبح مخيف‏,‏ ألا وهو الارتفاع الهائل في أسعار الكتاب‏,‏ لأسباب لا محل لمناقشتها هنا‏,‏ وإنما المهم أن نفكر‏,‏ معا‏,‏ كيف ننمي رغبة القراءة‏,‏ والحرص علي اقتناء الكتاب لدي الأجيال الناشئة التي بعدت المسافة بينها وبينه‏,‏ لأسباب عديدة لا محل لمناقشتها هنا‏,‏ أيضا؟‏.‏
كيف نجني من وراء إقامة معرض للكتاب استثارة تحمس عدد من الشباب والشابات لتكوين مكتبة منزلية فردية‏,‏ أو جماعية بإسهام وتسهيل من هيئات المعارض‏,‏ وجهاز مكتبة الأسرة‏,‏ والهيئة العامة للكتاب‏,‏ والهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية‏,‏ والهيئة العامة لقصور الثقافة‏,‏ والنوادي النوعية كنادي القصة‏,‏ والاتحادات النوعية كاتحاد كتاب مصر‏.‏ واتحاد الكتاب العرب‏,‏ واتحاد الناشرين الذي يضم دور النشر‏:‏ في القطاع العام والخاص علي حد سواء‏.....‏ إلخ‏.
لقد شهد التاريخ العربي مثل ذلك التحمس الذي أثمر ثماره‏,‏ وجني فائدته فيما خلفته الحضارة العربية من أثار وإنارة في العصور الوسطي المظلمة‏!!!.‏ وذلك في نمطين‏,‏ أو نموذجين من المكتبات‏:‏ مكتبات خاصة‏,‏ وهي‏:‏مكتبات الأفراد‏,‏ ومكتبات عامة وهي‏:‏ مكتبات الجماعات‏,‏ أو الهيئات‏,‏ أو المؤسسات‏,‏ أو الطوائف‏,‏ أو الدولة‏,‏ بوجه عام‏,‏ وكلا النموذجين يفتح مصراعيه للخدمة العامة والنفع العام للناس جميعا‏.‏
علي مستوي مكتبات الأفراد عرفنا بعض الأخبار عن مكتبات أمثال‏:‏ ابن شهاب الزهري‏,‏ وعبد الحكم الجمحي الذي اتخذ بيتا فجعله فيه دفاتر يقرأ فيها القارئون علي نحو يشبه النادي الثقافي‏,‏ ومكتبة بيت الحكمة التي أنشأها المأمون في بغداد‏,‏ وشهدت حركة الترجمة والتأليف‏,‏ ومكتبة علي بن يحيي النجم في قصره الجليل‏,‏ وكانت تسمي خزانة الحكمة‏,‏ وما أنشأه أبو القاسم جعفر بن حمدان الموصلي‏,‏ واسماه دار القلم بالموصل‏,‏ وما أنشأه الحاكم بأمر الله من المكتبة الملحقة بدار الحكمة‏,‏ واهتمام بني عمار في طرابلس الشام بمكتباتهم‏,‏ حيث جلبوا لها الكتب من أقطار شتي‏,‏ والأمثلة المشابهة لا تكاد تحصي‏.‏

وعلي مستوي الجماعات‏:‏ خصص الفاطميون للكتاب أربعين خزينة تتسع الواحدة منها لثمانية عشر ألف كتاب‏,‏ وزاد عدد الكتب فيها علي المليونين‏,‏ وما صنعه المستنصر بمكتبة مدرسته‏,‏ وما أشادته الحضارة الإسلامية بالأندلس من مكتبات ومؤلفات‏,‏ وقد جمع كوديرا الإسباني المكتبة الأندلسية التي ألفها المؤلفون العرب الأندلسيون‏,‏ ونشرها فيما بين سنوات ‏(1883‏ و‏1892),‏ ونشر الإسباني دي خويه وغيره المكتبة الجغرافية العربية في ليدن بين سنوات‏ (1871‏ و‏1894),‏ ونشر مجمع الآثار والفنون الفرنسي مكتبة الحروب الصليبية التي ألفها المؤرخون الشرقيون‏,‏ ونشرت بباريس بين سنوات‏ (1872‏ و‏1884),‏ ومثل ذلك ما كان في عواصم الحضارة العربية في‏:‏ القاهرة‏,‏ وبغداد‏,‏ ودمشق‏,‏ والقيروان‏....‏ إلخ‏,‏ وهو حديث طويل لا يتسع له المقام‏,‏ وأمثلته‏,‏ أيضا‏,‏ لا تكاد تحصي‏.‏

من هنا يكون من ثمار المعارض المهتمة بالكتاب‏,‏ ومن مسئولية صانعي الكتاب‏,‏ وناشريه‏,‏ ومن المهتمين بالنفع العام‏,‏ ومن دافعي الزكاة‏,‏ ومن المشرفين علي شئون الكتاب بعامة ـ من مسئولية هؤلاء جميعا أن يفكروا في الصيغة الملائمة‏,‏ والطرق المناسبة لتشجيع الكتاب وقارئيه‏,‏ وذلك في تصور لنموذجين مستوحيين من النموذجين السابقين‏:‏‏
*‏مكتبات الأفراد‏,‏ حيث ينشئها‏,‏ ويتبرع بها‏,‏ ويرعاها القادرون ويجعلونها سبيلا للراغبين‏,‏ عساهم يسهمون في مساعدة نابغة فقير جاد‏,‏ لتمكينه من الانتفاع‏,‏ وإفادة المجتمع معا‏,‏ كما يتبرع فيها من تقدمت بهم السن من العلماء والأدباء‏,‏ فيتبرعون بمكتباتهم‏,‏ ويجعلونها صدقة جارية ينتفع بها المنتفعون‏.‏‏
*‏مكتبات الهيئات والجماعات‏,‏ وذلك بقيام دور النشر بطبع نسخ طبعة شعبية‏,‏ تقليلا للتكاليف‏,‏ ومن ثم الإسهام بها في دعم المكتبات العامة القائمة منذ نشأة دار الكتب في عصر الخديوي‏,‏ أو استحداث دور عامة جديدة‏.‏‏
*‏يضاف إلي ذلك دعم خدمة الاطلاع عن طريق شبكة الاتصال العالمية‏,‏ فليس في مقدور كل إنسان توفير الوسائل التي تمكنه من استثمار تلك الإمكانات الهائلة في شبكة المعلومات العالمية‏,‏ وتلك ـ بلا شك ـ مهمة الدولة‏,‏ وبذلك يكون للمعارض وجودها الدائم طول العام‏,‏ بل طيلة اليوم كله علي مدي الساعة‏,‏ وليس في موسم بعينه‏,‏ استمرارا‏,‏ ودعما للثقافة والحضارة والتقدم‏,‏ بقدر ما هو دعم للكتاب‏.‏
الأهرام ، 5/2/2008


ليست هناك تعليقات: