٧ فبراير ٢٠٠٨

انقطاع الإنترنت‏:‏ دلالات ورسائل من قلب الأزمة

انقطاع الإنترنت‏:‏ دلالات ورسائل من قلب الأزمة
بقلم: جمال محمد غيطاس

اعتادت بلادنا علي أن تستيقظ فتصطدم بأنباء أسعار تنفلت أو سفينة تغرق أو قطار يحترق أو محصول ينهار أو عدوي مرضية تنتشر بين الطيور والبشر أو فساد يستشري أو احتكارات تستأسد‏,‏ لكن النصف الثاني من الأسبوع الماضي كان جديدا في أعبائه وأزماته التي كتب علي المصريين حملها علي ظهورهم‏,‏ فقد استيقظت البلاد علي أنباء شبكة تسقط وكابلات تنقطع وما تبع ذلك من ارتباك وشكاوي وإزعاج شديد انتشر بين أكثر من ثمانية ملايين مواطن مرتبطين بالإنترنت بدرجات تبدأ من مجرد التصفح وتنتهي بالاندماج العضوي بين إتاحة الشبكة وخدماتها والقدرة علي ممارسة العمل والإنتاج والحياة‏,‏ وفي قلب هذه الأزمة الجديدة علي المجتمع كانت هناك دلالات تستحق وقفة‏.‏
أول ما يلفت النظر في الأزمة هو رد الفعل المجتمعي تجاه حالة الشلل التي أصابت الإنترنت‏,‏ فقد كان ردا عريض النطاق صدر عن فئات متنوعة من المجتمع شملت مهنيين وأصحاب حرف وطلاب وقطاع منزلي وحكومي وقطاع أعمال وغيرها‏,‏ ويشهد علي ذلك مظاهر الاستياء والغضب التي تجسدت في آلاف الشكاوي تلقاها جهاز حماية المستهلك وجهاز تنظيم الاتصالات وأجهزة الإعلام فضلا عن ثورة الغضب التي شهدتها المنتديات والمدونات التي قدر لها مواصلة العمل‏,‏ وعبرت عن حالة لا يستهان بها من الارتباك في ممارسة الأعمال لدي الجميع‏.‏رد الفعل هذا يؤكد أن وجود الإنترنت بالبلاد لم يعد للدردشة وممارسة الألعاب والهوس بالجنس علي الشبكة كما تلح علي ذلك الصورة النمطية السائدة منذ فترة‏,‏ ولكنه وجود قطع خطوات لا يمكن تجاهلها صوب الاندماج والتلاحم مع المتطلبات والمقتضيات الحيوية لبيئة العمل والإنتاج‏,‏ ومن ثم بات علي الجميع أن يدرك أننا أمام مرفق إنتاجي يتعين الانتباه إليه وتأمين إتاحته واستمراريته في العمل وليس مجرد شبكة تعمل كوسيط نميمة وترفيه وتطرف في مطالعة الجنس‏,‏ وإذا كانت وزارة الكهرباء تسهر من أجل تأمين وصول التيار ووزارة البترول مهمتها وصول إمدادات الغاز والوقود ووزارات وهيئات أخري تؤمن وصول الماء‏,‏ فإن تأمين وصول الإنترنت أصبح علي القدر نفسه من الأهمية بالنسبة لحياة الناس وحركة الاقتصاد الوطني وقدرته علي الأداء‏.‏
دلالة ذلك أن تغلغل الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات في جنبات ومفاصل المجتمع يبدو أكثر عمقا وأكبر اتساعا واختلافا عما تشير إليه أو تصوره التقديرات المعلنة أو المتوافرة حاليا لدي الجهات المعنية سواء في وزارة الاتصالات أو مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار أو الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أو الشركات والقطاع الخاص أو غيرها‏,‏ بعبارة أخري هناك فجوة إحصائية ومعرفة واضحة فيما يتعلق برصد التأثير الاجتماعي والاقتصادي الذي أحدثته جهود نشر الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات بمجتمعنا خلال السنوات السبع الأخيرة‏,‏ ولذلك فالأزمة تكشف عن الحاجة الملحة لوجود نظام وطني متكامل للإحصاءات ومؤشرات القياس في مجال تكنولوجيا المعلومات‏,‏ يوفر إجابات حية ومتجددة عن الأسئلة التي تشكل هذه الفجوة ومنها علي سبيل المثال لا الحصر‏:‏ ما هي معدلات الانتشار الحالية لهذه التكنولوجيا بالمجتمع وأشكالها‏,‏ وما مدي الاستفادة منها فعليا؟ وما هي أنماط هذه الاستفادة‏,‏ وما مدي التأثير الحالي لهذه التكنولوجيا علي المجتمع اقتصاديا وتعليميا واجتماعيا؟‏..‏ وأيضا‏:‏ ماذا يريد المجتمع من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مستقبلا؟ وما هي المشكلات التي يمكن التفكير في حلها والطموحات التي يمكن تحقيقها بمساعدة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؟ وما هو الوقت المناسب لتنفيذ ذلك وكيف؟‏.‏
وفي تصوري أن توفير إجابات شافية وواقعية عن هذه الأسئلة سيضع أمام الدولة ـ لا الحكومة فقط ـ صورة واقعية لأوضاع الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات بالبلاد كمرفق إنتاجي تنموي حيوي له اعتباره‏,‏ ومن ثم تتخذ القرارات المتعلقة به وفق هذا القدر من الأهمية‏,‏ وليس باعتباره أمرا ثانويا أو أحد مقتضيات الموضة التنموية وكفي كما هو حاصل الآن‏.‏
يقودنا هذا الأمر إلي نقطة ثانية وهي أسلوب إدارة الأزمة‏,‏ فقد كشف أداء وزير الاتصالات والفريق الذي شكله عن سرعة في التحرك والإمساك بدفة الأمور دون أن تفقده فجائية الحدث وضخامته القدرة علي التركيز واتخاذ مبادرات للحل‏,‏ ويدل علي ذلك أن الفارق الزمني بين الشلل شبه التام الذي حدث بالخدمة وبدء عودتها تدريجيا كان ساعات‏,‏ وصحيح أن العودة كانت بطيئة لكنها دلت علي أن هناك جهدا مؤسسيا يبذل ويؤتي ثماره‏,‏ وإذا قارنا معدل العودة في مستوي التشغيل وتحسن الخدمة في مصر مع بعض دول الخليج سنلاحظ أن أداء فريق وزارة الاتصالات كان علي قدم المساواة بل وتقدم علي أداء وزارات أخري بالدول الشقيقة في الحصول علي سعات بديلة وتحويل المسارات نحو الشرق‏,‏ ففي حين كانت معدلات التحسن ترتفع كل يوم في مصر أعلن بعض مسئولي الخليج عن أن الوضع لن يبدأ التحسن لديهم قبل عدة أيام‏,‏ وحقق الجانب المصري هذه النتيجة علي الرغم من أن كل دول المنطقة دخلت في سباق محموم بحثا عن مسارات بديلة وكان عامل السعر والقدرة المادية حاسما في توفير البدائل‏.‏

تتسع دلالات الأزمة لتتجاوز سرعة التطويق إلي منهج الوقاية‏,‏ فحسب ما فهمته من بعض خبراء الاتصالات وكتبته بالأهرام صباح السبت الماضي فإن وزارة الاتصالات صممت استراتيجيتها للاتصال الخارجي بالإنترنت استنادا إلي التحليلات الواقعية المعتادة عالميا والتي تفترض أنه في الأغلب سيتعطل كابل واحد وليس كابلان من الكوابل البحرية الرئيسية‏,‏ ولذلك قامت أجهزة الوزارة المعنية ـ المصرية للاتصالات ومرفق تنظيم الاتصالات والشركات ـ بتوزيع المسارات الاحتياطية والإضافية للربط الدولي علي الكابلين معا‏,‏ كما اختارت عروضا سعرية وفنية تركز علي الأسعار المعقولة مقابل التخفف نسبيا من الحصول علي مزايا أخري مكلفة في الاتصال‏,‏ من بينها تحمل الجهة المالكة للكابل مسئولية توفير مسارات بديلة لمصر وفي وقت مناسب عند حدوث عطل بالكوابل‏,‏ وقد اختارت الوزارة هذا البديل باعتبار أنه في حالة تعطل كابل فإن الآخر يستطيع تحمل عبء الخدمة لحين إصلاح الآخر دون مشكلات‏,‏ وهو السيناريو الذي حدث حينما وقع زلزال الجزائر منذ فترة وأدي إلي انهيار أحد الكابلين بينما استمر الآخر في العمل ومن ثم لم تتأثر خدمة الإنترنت في مصر بشكل كبير واستمرت تعمل‏,‏ لكن ما حدث هذه المرة أن الكابلين تعطلا معا ففقدت مصر المسارات الاحتياطية والإضافية معا مما جعل الأزمة عنيفة بكل المقاييس‏.‏
وفي تقديري أن هذه الرؤية ـ علي واقعيتها ـ تحتاج إلي إعادة مناقشة في ضوء الأزمة الأخيرة‏,‏ لأن تكلفة توفير المسارات البديلة وقت الأزمة والخسائر المباشرة وغير المباشرة التي تكبدها الأفراد والمؤسسات نتيجة الانقطاع كانت في الأغلب أعلي كثيرا من الوفر الذي تحقق من وراء الأخذ بالعروض الأقل سعرا التي لا تضمن توفير المسارات بديلة وقت الأزمات‏,‏ وهنا نحن لا نستطيع إعفاء هذه الرؤية من بعض المسئولية عما يجري حتي وإن كان العطل ناشئا عن عوامل طبيعية أو حادثة غير متوقعة‏.‏
لقد راجعت خريطة عام‏2008‏ لتوزيع الكابلات البحرية الناقلة لحركة الاتصالات والمعلومات حول العالم‏,‏ ولاحظت أن عدد الكابلات البحرية العالمية المارة عبر أراضينا ونتقاضى عنها رسوما قليلة للغاية مقارنة بما يتيحه الوضع الجغرافي المتميز لمصر من إمكانات في هذا الصدد‏,‏ والواضح أننا لم نستفد حتى الآن كما يجب من الاستثمارات الهائلة والعائدات الضخمة لهذه الصناعة عالميا‏,‏ ولم ننجح في تحويل موقعنا الجغرافي إلي مصدر للدخل القومي عبر جذب المزيد من الكابلات البحرية العالمية للمرور من خلاله وتقاضي رسوم عبور طبقا للمعدلات العالمية‏,‏ وهذه نقطة إضافية تبرر إعادة مناقشة الرؤية التي تتبعها الوزارة حاليا والتفكير في استراتيجية جديدة يتكامل فيها جذب الكابلات البحرية للمرور عبر الأراضي المصرية وعوائدها مع الخطط الخاصة بالربط الدولي وبدائله وتكلفته وأسعاره‏,‏ وهذه قضية سأعود لها مستقبلا بشيء من التفصيل‏.‏
من الدلالات الأخرى للأزمة أنه يوجد علي رأس بعض مؤسسات الجهاز المالي والمصرفي بالدولة من لا يزال يخاف الإنترنت ولا يملك جرأة الاعتماد عليها والتعامل مع تحدياتها‏,‏ علي الرغم من أن هذا القطاع يفترض ـ كما هو سائد عالميا ـ أنه الأكثر ارتباطا واعتمادا علي الشبكة وخدماتها‏,‏ فقد أدلي بعض مسئولي المؤسسات والهيئات المالية والمصرفية بتصريحات حول الأزمة نفوا فيها بشكل قاطع أن تكون مؤسساتهم قد تأثرت بما حدث‏,‏ وكان أبرز تأثير في هذا الصدد هو تصريح ماجد شوقي رئيس البورصة الذي خرج علي الملأ لينفي عن نفسه وعن البورصة شبهة‏(‏ الاعتماد علي الإنترنت‏)‏ وكذلك الحال مع بعض مسئولي البنوك‏.‏
كان المتوقع أن مؤسسة كالبورصة أو البنوك أو شركات التداول الإلكتروني حينما تخرج لتؤكد للجماهير أنها لم تتأثر بانقطاع الإنترنت تعلن في الوقت نفسه أن سلامتها تعود إلي أنها تتصل بالإنترنت عبر مسارات بديلة غير التي تعطلت‏,‏ أو لأن لديها خطط طواريء نفذتها علي الفور وضمنت لأعمالها الاستمرار بسلاسة‏,‏ أو تعترف بشجاعة أن لديها تأثيرات سلبية كما فعلت المؤسسات المماثلة بدبي والسعودية والكويت‏,‏ أما أن تأتي التصريحات أقرب إلي التباهي بأن أعمالها لا علاقة لها بالإنترنت وبأنها لا تعتمد علي الإنترنت كلية فهذا كلام مؤسف يدل علي أن قائليه إما يغالطون أو يكابرون أو يعيشون خارج الزمن ويتخلفون بسرعة للوراء‏,‏ وأفضل وصف لمثل هذه التصريحات العقيمة جاء في الكلمة القصيرة التي كتبها الزميل الأستاذ محمد عمر في أخبار اليوم السبت الماضي وجاء فيها
البعض يقول‏:‏ مصر لم تتأثر بالزلزال ـ مصر لم تتأثر بأنفلونزا الطيور ـ مصر لم تتأثر بقرار البرلمان الأوروبي ـ مصر لم تتأثر بمشكلة الإنترنت‏...‏ هي مصر ما بتحسش؟‏..‏ صدقت‏.‏

الأهرام ، 5/2/2008

ليست هناك تعليقات: